خاص: إعداد- سماح عادل
فيروس كوفيد 19 الذي فاجأنا في مطلع عام 2020، والذي مثل رعبا مخيفا للجميع، أعطى فرصة للبعض للتأمل في الحياة، وكان فرصة للوعي بما يفعله من يحكمون العالم بالكرة الأرضية، واستنزاف الرأسمالية العالمية لموارد الكرة الأرضية، وتحميلها عبء التلوث ومخاطره نتيجة للتسارع المحموم في التصنيع وإنتاج السلع والمواد، ولم يتحمل المخاطر سوى الأغلبية من سكان العالم الذين يشكلون مجموع الفقراء والكادحين، واستغلت الرأسمالية ذلك الوباء للتربح والتنافس في الترويج للقاحات.
لكن مع الوعي ببشاعة ما يحدث استطاع البعض مواصلة حياتهم بعد التأمل ومراجعة الذات، واستطاع المثقفون والكتاب إيجاد المنافذ المناسبة للتفاعل فيما بينهم، ونشطت حركة القراءة في أوروبا والبلدان الغربية، وربما نشطت أيضا في منطقتنا لكن لم يكن لها مردودها المادي في جيوب الناشرين، وظل الأمل في الاستمتاع بالحياة رغم كل الصعوبات.
لذا كان لنا هذا التحقيق الصحفي الذي يجمع آراء الكتاب والكاتبات حول تأثير العزلة العالمية بسبب الفيروس عليهم، وقد وجهنا لهم الأسئلة التالية:
– كيف كان تأثير ظهور فيروس “كوفيد ١٩”والعزلة التي صاحبته لمدة عام ونصف على الكتابة لديك؟
– هل أثرت العزلة على حركة الثقافة وعلى نشر وتوزيع الكتب خاصة مع قلة الفاعليات الثقافية من معارض كتب وندوات؟
– ما هي البدائل التي لجأ إليها الكتاب للتواصل والتفاعل في مجال الثقافة؟.
تغول الرأسمالية البشعة تسبب في انتشار الفيروس..
يقول الكاتب العراقي “محمد حيّاوي”: “في البدء كانت صدمة كبيرة، أقصد بالنظر لاكتشاف هشاشة العالم وإمكانية انهيار منظومات القيم والأخلاق والمبادئ التي بنتها البشرية على مدى تاريخها. بمجرد ظهور جائحة عالمية، هي نتيجة حتمية لتغول رأس المال والإيغال في استهلاك موارد الكوكب بطرق أنانية بشعة، من دون الالتفات إلى تحذيرات العلماء من التردي البيئي وتوسع ثقب الأوزون وتلوث مصادر المياه وانحسار رقعة الأراضي الزراعية.
لقد وقف العالم مندهشًا أمام سفالة بعض من تصورهم قادة يحددون مصير البشرية ويحولون دون انهيار القيم الإنسانية، وهم يتبارون في احتكار اللقاحات ويتصرفون بأنانية فجة. لهذا، من وجهة نظري، فأن أول درس استخلصناه من أزمة كوفيد 19 هو مدى هشاشة البنية الأخلاقية وعدم وجود قادة حقيقيين يمكن أن تركن لهم البشرية في الملمات.
الدرس الآخر والمهم، هو إدراك ثمن الحريّة التي يتنعم بها الكثير من البشر، من دون أن يشعروا بنعمتها، حتى انتزعت الأزمة أبسط مفرداتها، كالجلوس في مقهى واحتساء فنجان قهوة مع صديق، ناهيك عن تضخيم الأزمة ونشر الرعب منها حول العالم بإطلاق قناة تلفزيونية عالمية ترصد أرقام الإصابات وأعداد الضحايا، على الرغم من أن تلك الأعداد لا تزيد عن مثيلاتها في الأوقات العادية، مثل أعداد ضحايا السير والفيضانات والحرائق وما شابه.
لذا فإن البشر مدعوون للاستفادة من أوقاتهم الثمينة واستغلالها الاستغلال الأمثل والكف عن الجري وراء الأوهام والضغائن وتعلم التعبير عن حبهم لمن يحبون، وقضاء الأوقات السعيدة التي تشعرهم بإنسانيتهم معهم”.
ويضيف: “لقد أتاحت الأزمة الكثير من الوقت الذي يُفترض استغلاله بالكتابة والإنتاج، لكن من جهة أخرى فإن الكاتب ككائن هش وقلق على الدوام، لا يمكن أن ينفصل عن الأجواء العامّة المحيطة به، ومن دون استقرار نفسي، لا يمكن أن ينتج ويواصل الكتابة، كما لو أن شيئًا لم يكن.
وبالنسبة لي شخصيًا، كانت تلك الفترة فترة قلق وخوف على مصير البشرية وعلى مصير من أحب، وكنت أشعر دومًا بأن الناس بحاجة للسلام الداخلي والاطمئنان على مصيرهم ومصير أحبائهم. بعبارة أخرى كنت قلقًا ومعطبًا وعاجزًا عن الكتابة في السنة الأولى، على الرغم من امتلاكي لمخطوطتين شبه منجزتين، لكن على الرغم من ذلك اضطررت للانتظار حتى بداية العام الحالي لأضع اللمسات الأخيرة على أحداهما ودفعها للنشر قبل أيّام”.
وعن تأثير العزلة على حركة الثقافة يقول: “لقد كان للعزلة تأثيرًا عكسيًا في الواقع، فعلى الرغم من صعوبة التنقل والسفر وإقامة معارض الكتاب والعروض السينمائية والفعاليات الثقافية، إلّا أن حركة الكتب ونشرها واقتناءها وقراءتها، ازدادت، بسبب وفرة الوقت لدى الناس، كما أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وتوفر التقنيات الخاصة باللقاءات الافتراضية كبرنامج زووم وغيره، أدى إلى تبادل الخيرات والآراء على صعيد القراءة وتبادل الكتب الرقمية والأفلام وغيرها. لقد كانت فترة خصبة على صعيد القراءة ومشاهدة الأفلام والعروض والندوات الافتراضية.
وحسب مصادر التسويق في أوروبا، فإن الطلب على الكتب عبر الإنترنت ازداد بنسبة 30% نتيجة لتوفر خدمة التوصيل وكثرة الخصومات المعروضة. وإن عدم وجود معارض كتاب أو ندوات نتيجة الأزمة، لم يؤثر على القراءة وحركة النشر، بل بالعكس تمامًا، خصوصًا على صعيد النسخ الرقمية، على الرغم من أن الناشرين العرب لم يستفيدوا من تلك الظاهرة، كما استفاد منها أقرانهم في العالم، نتيجة لتفشي ظاهرة القرصنة وسلوكيات قراءة الكتب مجانًا ونشرها وتوزيعها عبر شبكة الإنترنت من دون رقيب أو حسيب”.
وعن البدائل التي لجأ إليها الكتاب للتواصل يقول: “كما قلت سلفًا، فإن البدائل الافتراضية موجودة ومتاحة وسيزداد الاعتماد عليها مستقبلًا بالتأكيد، لكنّها من جانب آخر، لن تكون بديلًا حقيقيًا للواقع، شخصيًا دُعيت لأكثر من عشر ندوات وفعاليات افتراضية تخص الكتب والأدب والترجمة وغيرها، لم ألبِ سوى دعوة واحدة منها، لشعوري بعدم وجود العنصر الأهم في تلك اللقاءات، وهو التواصل البشري الحقيقي والإحساس بحرارة اللقاء والتواصل بالنظر مع الأصدقاء والجمهور. ومن وجهة نظري، لن تكون اللقاءات الافتراضية بديلًا حقيقيًا ودائمًا للقاءات الواقعية، كما أن القراءة الإلكترونية لن تكون بديلًا للقراءة الواقعية والإحساس بملمس الكتب ورائحتها أبدًا.
وفي المحصلة، لقد خُلقنا ككائنات اجتماعية، تتواصل وتتفاعل وتتلامس وتتبادل النظرات وتشعر بجاذبية الأجسام وهالات التأثير المنبعث من كتلها على الكائنات الأخرى، ولن نتحول إلى كائنات متوحدة مع الإلكترونيات وتعيش في كانتونات معزولة عن بعضها البعض وتلوك وحدتها، كما تريد الرأسمالية المتغولة، فلإنسان سمي إنسانًا لأنسه واستئناسه بالآخرين”.
اقتراب الموت..
ويقول الكاتب المغربي “مصطفى لغتيري”: “لا شك أن انتشار وباء كورونا عبر العالم أدى إلى عزلة تامة بالنسبة لجل سكان العالم، خاصة مع اعتماد كثير من الدول على الحجر الصحي كطريقة فعالة للحد من انتشار الوباء، مما ألزم الجميع المكوث بمنازلهم، ولم يكن الكتاب بمنأى عن ذلك، فخضوعهم لهذا الحجر ضاعف من العزلة التي يعيشونها أصلا، فكما يعلم الجميع فالكاتب يسعى دائما إلى خلق نوع من العزلة من أجل أن يمارس الكتابة، لكن الفرق هنا هو أن هذه العزلة كانت مفروضة وليست اختيارية، مما زاد من صعوبتها.
بالنسبة لي شخصيا كانت هذه الفترة العصيبة مناسبة للتأمل أكثر في المصير الشخصي والمصير المشترك للبشرية، فأن يصبح الموت بهذا القرب منا وبهذه الكثافة، لا بد أن يكون محفزا على التفكير والتأمل خاصة في ظل هذه الهشاشة التي أعلنت عن نفسها بشكل مفاجئ وغير مسبوق. أناس يموتون هنا وهناك، وبدون سابق إنذار، وكلما اقترب الموت منا ومس بعض معارفنا أو أقاربنا أصبح الأمر أكثر جدية وصعوبة وإرباكا”.
لا أخفي أن فترة الحجر الصحي حرمتني من بعض المتع الصغيرة، التي اعتدتها في حياتي، مثل التجول مشيا والجلوس بالمقهى واحتساء كوب قهوة وقراءة الجرائد وبعض الكتب، لكنها بالمقابل منحتني الكثير من الفراغ من أجل ممارسة الكتابة، وقد استطعت أن أنهي فيها كتابا، سميته “شهوة الأمكنة” هو عبارة عن سيرة روائية استرجعت من خلالها أهم الأماكن التي أثرت في نفسيتي خلال الطفولة والمراهقة”.
ويواصل عن تأثير العزلة على الثقافة: “بشكل عام يمكن القول بأن عزلة كوفيد 19 أثرت بشكل عميق في الحركة الثقافية بشكلها التقليدي، فالندوات توقفت في القاعات والمسارح، والمكتبات أغلقت أبوابها، والجرائد والمجلات توقفت طبعاتها الورقية بشكل كلي، كما أن المعارض التي اعتادت أن تمدنا بالجديد في مجال الإصدارات لم تعد تفتح أبوابها ولا أروقتها للزوار، وبتنا نتيجة لذلك في حالة من الجمود تهددنا بالشلل التام، وكأننا أصبحنا إزاء عالم ثقافي ينسحب من أمام أعيننا ونحن نتفرج عليه، غير قادرين على القيام بما يمكنه أن يعيد له قبسا من حياة”.
ويؤكد: “وإذا كان الاختراع وليد الحاجة، فإن هذا الركود على المستوى الثقافي بالشكل الذي رأيناه، حفز العقول والقلوب للبحث عن بدائل فوجدته في التواصل عن بعد، فنشطت الندوات، وتبين بالملموس أهمية مواقع التواصل الاجتماعي، التي أبانت عن كفاءة منقطعة النظير، وهكذا تعددت المناظرات واللقاءات عبر التقنيات الرقمية الجديدة، التي حافظت على حد أدنى من التواصل الثقافي في انتظار أن تعود الحياة إلى طبيعتها”.
تسارع عجلة الحياة وضياع الذات..
وتقول الكاتبة الليبية “نيفين الهوني”: “في البداية لقد عاني العالم الفترة الماضية من عزلة اضطرارية بسبب الجائحة وهو أمر ربما لم يسبق لأغلبنا أن جربه وبالتالي لقد فرض هذا الموقف على العالم البحث عن طرق بديلة للتواصل وحلولا لما وجد نفسه في أزمات خوفا على التواصل الإنساني من الاندثار والتلاشي، وهذا ما دعى البعض وخاصة المبدعين والأدباء إلى العودة إلى القراءة وترتيب مكتباتهم وفرزها وفهرستها.
وهناك من توجه إلى التواصل الافتراضي وتحديدا بعدما طالت المدة فهناك مهرجانات دولية أقيمت افتراضيا، مثل مهرجان جرسيف الدولي بدولة المغرب الشقيق الذي شاركت فيه كشاعرة، وعرضت مشاركتي عبر منصات التواصل الاجتماعي وأيضا هناك بعد المؤتمرات وورش العمل التي أقيمت عبر تطبيق الزووم، وكانت لي أيضا تجربتي من خلال ورشة عمل وسائل الإعلام كمحفزات لتغيير في السياسات الجندرية لمركز الإعلاميات العربيات والتلفزيون الوطني الإسباني والوكالة الاسبانية للتعاون الدولي، وكانت تجربة مميزة بالإضافة إلى العديد من الندوات الفكرية والأدبية والإعلامية المتخصصة”.
وتضيف: “هناك من أستغل الوقت في الكتابة فقط كان المناخ العام والوضع الحرج ملهم للكثير من الكتاب الذي خرجت أعمالهم للنور في ظل استمرار الجائحة، وأيضا هناك من عكف على مشاريعه الأدبية والفكرية المؤجلة فقاموا بتجميع مخطوطاتهم وتصحيحها وتعديلها وتجهيزها للطباعة، ولقد كان لي فرصة أعداد ديواني شعر أحدهما سيعرض في معرض القاهرة للكتاب هذا العام من إصدار دار السعيد للنشر والتوزيع وهو بعنوان “وطن التفاصيل” من تقديم الأديبة المصرية “شريفة السيد”، والآخر ربما سيكون حاضرا آخر العام تحت عنوان “إضمامة البوح الأخيرة”.
أيضا لا ننسى الصالونات الأدبية الافتراضية عبر تطبيقات (الواتس اب والتيليجرام والفيس بوك) أيضا مثل الصالون الشباب ولقاء الأجيال المنبثق عن ملتقى السرد العربي للدكتور حسام عقل والذي كان ملتقانا في شهر رمضان من عامي 2020 و2021.
أما على مستوى النشر والتوزيع فيما يخص الكتاب فلقد أثرت هذه الجائحة في البداية ثم بدأ العالم في التخلص جزئيا من مشكلة النشر ثم الآن التوزيع والعرض بالإضافة إلى بدء إقامة الفاعليات على الرغم من أن المشكلة لم تحل بشكل تام، إلا أننا نرى أن بدء انفراج الأزمة فأل حسن وأتوقع أن تحل مشكلة الفاعليات بقليل من التدابير الاحترازية، خاصة وأن الفيروس مستمر وعلينا التعايش معه كما صرحت منظمة الصحة العالمية.
ومن منظوري الشخصي لقد كانت هذه العزلة الإجبارية فرصة ذهبية أيضا للعودة إلى النفس ومحاسبتها وإعادة تأهيلها لتقبل الواقع ومجابهة القادم أيا كان نوعه، والالتفات لأشياء جميلة كنا قد بدأنا في تناسيها أو إهمالها عن غير قصد بسبب تسارع عجلة الحياة وتطاحن تروسها التي تلوكنا كل يوم وتلتهم تفاصيلنا دون أن نشعر.