خاص: إعداد- سماح عادل
كان فيروس “كوفيد 19” سببا قويا في كشف الضعف والهزال الذي يعاني منه قطاع الثقافة في بلداننا، بلدان الشرق، تخلي مؤسسات الدولة عن دعم الثقافة ودعم النشر، وتخليها الأكبر عن الكتاب والمبدعين، وركود حركة صناعة الكتب، والتي هي مشكلة قديمة زادها ظهور الفيروس تأزما. كما ساهم الفيروس في زيادة ظهور المتطفلين، أغنياء الأزمات، أولئك الذين ينشطون في وجود المشاكل والأزمات، ليستفيدوا منها، وفي مجال الثقافة يتمثل هؤلاء في أصحاب دور نشر هشة ووهمية، يسعون لتجميع الأموال من الكتاب في مقابل طباعة أعداد محدودة لكتبهم دون مراجعة أو تنقيح، ودون توزيع. لكن الأثر الأكثر حزنا للفيروس هو خفوت لذة الكتابة، أو على الأدق اختناقها من تراكم الخيبات وتزاحمها على الكاتب.
لذا كان لنا هذا التحقيق الصحفي الذي يجمع آراء الكتاب والكاتبات حول تأثير العزلة العالمية بسبب الفيروس عليهم، وقد وجهنا لهم الأسئلة التالية:
– كيف كان تأثير ظهور فيروس “كوفيد ١٩”والعزلة التي صاحبته لمدة عام ونصف على الكتابة لديك؟
– هل أثرت العزلة على حركة الثقافة وعلى نشر وتوزيع الكتب خاصة مع قلة الفاعليات الثقافية من معارض كتب وندوات؟
الكتابة خط الدفاع..
يقول الكاتب المصري “وفيق صفوت مختار”: “عندما ظهر الوباء، أصبت في البداية بصدمةٍ حقيقيةٍ، وخصوصًا مع فشل منظمة الصحَّة العالمية في مواجهة الأزمة بشكلٍ احترافي، فتضاربت التصريحات، وتناقضت المعالجات، وقد راعني هول الكارثة في أوروبا وأمريكا وخصوصًا وهم يمتلكون التكنولوجيا الحديثة، ووسائل التقدُّم الطبي المتطوِّرة، ممَّا جعل ثقتي تهتز بالعالم الذي نعيشه. وكان الحجز أو السجن القسري في منازلنا من أبشع أنواع القسر الذي يمكن أن يواجهه الإنسان، حيث يفقد حريته في السفر والتنقُّل والترحال. وأمام الأمر الواقع تقوقعت داخل شرنقتي، حجرتي، لاغيًا فكرة السفر تمامًا، حتى خروجي لقضاء حاجيات أُسرتي كان محفوفًا بالخوف حدّ الهلع.
ساعات السجن بالإكراه لا تمضي سريعًا أبدًا، والأيام تتشابه إلي حدٍّ كبير، والإحساس بالزمن يتلاشي، فقرَّرت أن أعكف على كتاباتي المؤجلة، بالرغم من إرهاقي البدني، وضعفي المعنوي. كانت الكتابة بالنسبة لي هي خط الدفاع الأوَّل في تخطي العقبات، ولكن العقبات هذه المرَّة كانت ممتزجة بالخوف من المجهول، وهلامية المستقبل.. قضيت فترة ليست بالقصيرة في مواجهة حياتي الجديدة في ظلِّ (كوفيد19)، أو الكورونا كما يحلو أن نسميها..
وبعدها بدأت في تحقيق مشروعي الثقافي المهم الذي حدَّت ملامحه عن كثبٍ، والذي يتبلور في إصدار سلسلة، أطلقت عليها: (سلسة المبدعون)، بدأتها بكتابٍ عن الشاعر الإنجليزي (وليم شكسبير)، متتبعًا سيرته الذاتيَّة وسيرته الإبداعيَّة، كان العمل شاقًا للغاية ولكنَّني أنجزته، وبعد فترة قصيرة نسبيًا صدر الكتاب، ممَّا شجعني على استكمال باقي السلسلة، فاتفقت مع دار نشر أتعامل معها على تبني ما أكتبه في هذا المجال، فلم تتردد الدار في الموافقة، بالرغم من الكساد الصارخ الذي تعانيه جراء (كوفيد19)، وبالفعل انتهيت الآن من إصدار ثلاثة مؤلفات منها، هي: الشاعر المصري (أمل دنقل)، والشاعر العراقي (بدر شاكر السيَّاب)، والشاعر السوري (محمَّد الماغوط)، وسوف تكون هذه الكتب متاحة في معرض القاهرة الدولي أواخر شهر يونيو2021، ثُمَّ انتهيت مؤخرًا من تأليف كتاب تربوي بعنوان: (سيكولوجيَّة المراهقة) سيكون متاحًا أيضًا بمعرض يونيو2021 ولكنَّه سيصدر عن دار نشر مرموقة بالمملكة الأردنيَّة”.
ركود حركة صناعة الكتب..
ويقول عن تأثير العزلة على حركة الثقافة: “بالطبع أثَّرت العزلة التي ترتبت على وباء (كوفيد19) ليست فقط على حركة الثقافة، بل حركة الاقتصاد، وقد ظهر هذا جليًا على كافة اقتصاديات العالم في الدول الرأسمالية الغنية، فما بالكِ بدولنا النامية الفقيرة.
نعلم جميعًا أن مسألة نشر وتوزيع الكتب كانت تُعاني في مصر وفي العالم العربي من عدة معوقات قبل انتشار (كوفيد19)، فما بالنا بعد انتشار الوباء، لقد ازدادت الأمور تعقيدًا، وأصبحت القضية تعاني الشيء الكثير من التردِّي والضعف، فما زالت الحكومة في مصر لا تدعم صناعة الكتاب بالشكل المرجو، فالمؤسسات الثقافيَّة الحكوميَّة المعنية بطباعة الكتب وتوزيعها تُعاني خيبات الإفلاس المادي، الذي أدي إلي عجزها عن استيعاب كافة ما يُكتب أو يُؤلَّف، كما أنَّ انخفاض الدخل القومي في مصر انعكس بالسَّلب على عملية شراء الكتاب، فالأسرة ـ الآن ـ تعتبر شراء الكتب أو حتى المجلات من وسائل الترف غير المرغوب فيها، وأنَّ الكتب أو المجلات متواجدة على شبكة الإنترنت.
كما أنَّ صناعة الكتب الآن أصبحت مكلفة للغاية، فدور النشر الخاصَّة، والمشهود لها بالمصداقية والتاريخ الطويل المشرف في هذا المجال أصبحت تُعاني من ارتفاع سعر الورق والأحبار.. وفي نفس الوقت تُعاني من ضعف التوزيع، وبالتالي تعرضت لهزاتٍ شديدةٍ ترتب عليها الإغلاق الجزئي لبعضها، أو الإغلاق الكلي لبعضها الآخر، وأنا شخصيًّا لديَّ نماذج عاينتها بنفسي.. هذه الأمور أفسحت المجال لمجموعةٍ من المنتفعين والانتهازيين، الذين غالبًا ما يظهرون مع تفشي الكوارث، كتجار الحرب تمامًا.
قاموا بإنشاء دور نشر لم أسمع عنها من قبل، كُلّ هدفهم جني الأموال، فقاموا بجمع تكاليف الطباعة من الكُتَّاب وخصوصًا من الشَّباب الذين لا خبرة لهم في هذا لمجال، أو الشَّباب الذي يعتقد أنَّ نجاحه ككاتب يبدأ حتمًا من نشر كتبه، هذه الدور استغلت طموح هؤلاء فجمعت منهم تكاليف طبع كتبهم بشكلٍ مُغالي فيه، وطبع عدد محدود منها، دون الاهتمام بتوزيع الكتب لأنَّها قد جنت أرباحها مُقدَّمًا من هؤلاء البسطاء، ودون النظر إلى جودة ما يُقدَّم لها من أعمال، إنَّها أوهمتهم بأنَّ أعمالهم عُرضت علي لجان تحكيم متخصِّصة، وهو لا يحدث، كما أنَّها تنظم لهم مسابقات وهمية، وحفلات توقيع علي حسابهم الشخصي.. وكُلّ هذا في غفلةٍ من الجهات المعنية بالثقافة في مصر، أتمني أن تتدارك الدولة هذه الأمور، سيما ونحن الآن يحدونا الأمل في انقشاع غمة (كوفيد19) بإذن الله تعالي”.
كتب مسموعة..
وعن البدائل التي لجأ إليها الكُتَّاب للتواصل والتفاعل يقول: “كان النشر الإلكتروني عَبْر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي هو البديل المُتاح للكُتَّاب في ظلِّ أزمة (كوفيد19)، فلقد تابعت مئات القصائد الشعريَّة، والقصَّص القصيرة، والخواطر التي اجتاحت الفضاء الافتراضي. كما لجأ البعض الآخر للنشر وبالتالي التواصل والتفاعُّل عَبْر منصات النشر الإلكتروني، حيث ظهرت مواقع لمؤسساتٍ تدعو الكُتَّاب للنشر لديها، مع طبع عدد محدود من هذه الإصدارات ورقيًا، وقد عُرض عليَّ ذلك، ولكني ما زلت لا أعرف الكثير عن هذه المؤسسات، وقد ألجأ إلي هذا النشر مستقبلًا سيما إذا كانت هذه المؤسسات تتمتع بالقانونيَّة والشرعية والمصداقيَّة.
كما لجأ البعض إلي تحويل مؤلَّفاتهم إلي كتبٍ مسموعة أو مقروءة، وهذا ما حدث معي مؤخرًا بشأن موسوعتي الموسومة: (أشهر المبدعات في تاريخ الأدب العالمي)، حيث قام الناشر الذي يمتلك حقوق التصرُّف فيها بتحويلها إلي موسوعةٍ مسموعةٍ، وهذا ما لاحظته أيضًا وخبرته عندما قامت دور نشر عريقة بتحويل بعض كتبها إلي تلك التقنية الحديثة.. وهو ما سيكونه النشر فيما بعد”.
افتقاد اللمة الثقافية..
ويقول الشاعر والكاتب العراقي “أمير ناصر”: “ما لا نستطيع نكرانه، أن الوباء اللعين الذي فقدنا الأحبة والأصدقاء من رجال ونساء، شيوخ وشباب، له تأثير بالغ وكبير، لاسيما في سنته الأولى، فقد كنا مع إطلالة كل صباح (أقول في سري) أني كسبت يوما إضافيا (هذا أنا معافى ولم أمرض) لذلك كان همي الوحيد هو متابعة أخبار الوباء في كل أرجاء العالم، والأرقام المرعبة للوفيات والإصابات. كنت أنا وصديق لي نهرب يوميا باتجاه القرى، الرئة الأنقى دائما والمكان الفسيح الذي لايعشعش فيه الوباء، نتابع من خلف زجاجة سيارته ما يدور حولنا.
وانحسرت القراءة والكتابة أمام أهوال هذا الوباء الفتاك… إلا من متابعات بسيطة في السينما أو مواضيع سريعة أجدها هنا وهناك في “الفيس بوك” أو شريط الأخبار… إنها الكارثة حقا..”.
ويضيف: “بالتأكيد للوباء تأثير كبير على الثقافة والدور النشر والتوزيع بسبب انحسار أو انعدام التجمعات الثقافية والمعارض العامة والخاصة، وبات السفر إلى المدن الكبرى أشبه بالمستحيل، أذكر من جملة هذه الأمور صدور مجموعة شعرية لصديق لي في محافظة بعيدة عني، صوّر لي مجموعته وأرسلها عن طريق “الفيس بوك”، وأنا بدوري نسختها لأتمكن من قراءتها.
نعم أقام العراق معرضا دوليا في العام الماضي والحالي، لكن هذه المعارض افتقرت لوجود دور نشر متنوعة ومهمة، كذلك ألغي مهرجان المربد الشعري السنوي المقام في مدينة البصرة العريقة، للأسباب نفسها …. و(عوضت) وسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات أعادة اللّمة الثقافية التي افتقدناها”..
خيبات الأمل تخنق شهوة الإبداع..
ويقول الكاتب العراقي “ناهض الرمضاني”: “أظن أن الإبداع في زمن كورونا هو ناتج رياضي لعملية ضرب شهوة الإبداع، مضروبا في الوقت المتاح، مضروبا في مساحة كمية خيبات الأمل لدى المبدع.. وأي عنصر من هذه العناصر الثلاثة يتغير فإنه سيغير حتما نتيجة المعادلة.
أنا شخصيا كان الناتج لدي صفرا للأسف، صحيح أن الوقت المتاح كان طويلا، طويلا للغاية، أطول من أي وقت خططت فيه لكتابة أي من أعمالي السابقة. إلا أن قلمي لم يطاوعني لإكمال أي من أعمالي الناقصة المتروكة، روايتان غير مكتملتين، ونص مسرحي ينتظر الخاتمة فحسب.
حاولت العودة إلى كتابة القصة القصيرة، ظننت أنني قد أمسكت بفكرة قصة مميزة اسمها “سوء حظ” لكن ولسوء الحظ “سوء حظي وحظ تلك القصة” فقدت رغبتي تماما في إكمالها. وبقيت سوء حظ على واجهة سطح المكتب في حاسوبي أشيح نظري عنها كلما فتحت الجهاز”.
ويؤكد: “الوقت متاح، الوقت طويل، لكن شهوة الإبداع تقلصت وضمرت، واتسعت رقعة خيبات الأمل أكثر وأكثر بعد كل كتاب قمت بنشره أو بعد كل جائزة أدبية حصلت عليها، وأصبح الوقت المتاح ملعبا رحبا للملل. الموضوع طويل ومتشعب، وأزمة كورونا وفرت لنا الوقت ولكنها سحبت من أرواحنا الكثير الكثير.. في ظرف نعاني فيه أصلا من أفول مستمر”.
ويواصل: “التقيت قبل أسابيع بأديب عراقي شاب هو “مازن رياض” الذي نشر روايته الأولى” أبيض وأسود” قبل شهور وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره ومازال طالبا في السنة الأخيرة من دراسته الثانوية. أبهرتني قدرته على الكتابة الطويلة، وأحببت ثقافته الواسعة التي كسرت المقولة الخالدة التي يرددها كل جيل وهي أن “جيلنا هو آخر جيل لكبار المثقفين”. إذ تأكدت تماما أن معين الإبداع لم ولن ينضب، وأن لكل جيل مثقفيه ومبدعيه وإن تغيرت بعض الوسائط. لكنني شعرت بحزن خفي على هذا المبدع الذي قد يصاب يوما ما بانتكاسة في شهوة الإبداع نتيجة خيبات الأمل التي ستصيبه تماما كما أصابت كل مبدع عربي حر.
“سأصبح كاتبا وأتفرغ للتأليف”، هذا ماقاله لي حينما سألته عن خططه للمستقبل، وبأسف شديد حذرته وبشدة من هذا القرار، وبدأت أشرح له مأساة واقعنا الثقافي في أرض العرب، والفرق بين المبدع فيها والمبدع في أماكن أخرى”.
ضجر وملل..
وتقول الكاتبة العراقية “شهد المرسومي”: “بداية تفشي الوباء وبدء الحجر المنزلي كانت فرصة ذهبية لتصفية الذهن والانغماس في الكتابة، وفعلا أنتجت خلالها مجموعتي القصصية الثانية “كوبري وقصص أخرى”. بعدها بدأت مشاعر الضجر والملل تتسرب لنفوسنا شيئاً فشيئاً فقلت وتيرة الكتابة. بالتأكيد فإن تأجيل معارض الكتب وانخفاض الإقبال عليها نتيجة لتفشي جائحة كورونا أثر سلباً وبشكل كبير على إقبال القُراء على النِتاجات الأدبية وخاصة الأُدباء الجُدد مِثلي أنا، فلم نحظ بفرصة لحضور ندوات ولقاءات مع القُراء، الكُتاب والنُقاد.
لذا فقد اقتصر تواصلنا مع المجتمع الأدبي على مواقع التواصل الاجتماعي، وانحصرت نشاطاتنا بين إحصاء لعدد لايكات وإجابة للتعليقات! لكن لن أنكر فضل تجمعات (جروبات) القراءة في معرفة ما يفضلهُ القُراء في أرجاء الوطن العربي من أنماط أدبية مختلفة، كما أضحت لدينا فكرة عامة عن أبرز معضلات النشر التي تواجه الكُتاب والدور على حدٍ سواء”.