إعداد/ د. محمد عفان د. محمد عفان
منذ نحو قرن من الزمان أخذت الأحداث السياسية المحورية التي أسفرت عن ميلاد الدولة العربية الحديثة تتداعى، ففي مارس 1916 انتهت المراسلات الشهيرة بين الشريف حسين بن علي (شريف مكة) وبين السير هنري ماكمهون (المعتمد البريطاني بمصر) والتي عرفت بمراسلات حسين – ماكمهون، لتندلع بعدها الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية في يونيو 1916، وقبل ذلك بشهر (أي في مايو 1916) تم الانتهاء من التفاهمات السرية بين الدبلوماسي الفرنسي “فرانسوا جورج بيكو” ومستشار الحكومة البريطانية “مارك سايكس”، بمصادقة من روسيا القيصرية، والتي عرفت باسم اتفاقية “سايكس – بيكو”، والتي دارت حول تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية في منطقة الهلال الخصيب (الشام والعراق).
لكن أهمية العودة بالنظر والتفكير في هذه الحقبة الهامة من تاريخنا لا تعود فقط بمناسبة الذكرى المئوية لهذه الأحداث، وإنما سيكون من المفيد أيضا ونحن نرى إمارات الشيخوخة والخرف في هذه الدولة العربية الحديثة في السنوات الأخيرة أن نعود لدراسة لحظات الميلاد وتشوهاتها، لكي ندرك بعضا من أسباب اعتلال وتعثر هذا التنظيم السياسي.
في هذه الورقة سوف نتناول الميلاد المبتسر للدولة العربية الحديثة بين فشل محاولات الإصلاح للدولة العثمانية، وبين التحديث القسري المتعسف على يد الاستعمار، ثم نتناول فوضى الاتفاقيات والتفاهمات التي حدثت في هذه الحقبة من الزمان والتنافس بين مختلف المشاريع الاستعمارية والاستقلالية الذاتية، لنخلص في النهاية إلى التشوهات التكوينية التي اعترت الدولة العربية الحديثة، والتي لعبت دورا في ضعف فاعليتها واستقرارها لاحقا.
أولا: التكوينات الجنينية للدولة العربية الحديثة:
قبل التطرق إلى الموضوعات سالفة الذكر، سيكون من الملائم أن نلقي نظرة على التكوينات الجنينية (ما-قبل الحديثة) للمجتمعات السياسية العربية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فقد قدَّم “إيليا حريق” تصنيفاً خماسياً للنظم السياسية أو السلطات التقليدية التي سبقت ميلاد الدولة الحديثةفي المنطقة العربية:
النمط الأول: سلطة الإمام-الرئيس Imam-chief authority:
وهي الدول أو التنظيمات السياسية التي كانت تتحد فيها الزعامة الدينية والسياسية، ويشتمل هذا النمط على نوعين فرعيين، الأول: الدول أو التنظيمات السياسية التي اعتمد رؤساؤها في شرعيتهم السياسية على نسبهم للنبي صلى الله عليه وسلم مثل الهاشميين في الحجاز والعلويين بالمغرب، والثاني، الدول أو التنظيمات السياسية التي نشأت من أقلية دينية هاجرت إلى الأطراف هرباً من الاضطهاد الديني، مثل الإمامة الزيدية في اليمن والتي حكمت من 897 -1962م، والإمامة الإباضية في عمان والتي حكمت فترات من 751-1970م.
النمط الثاني: سلطة الإماموالرئيس Imam and chief authorities:
وهي الدول أو التنظيمات السياسية التي لم يدَّع ِ رؤساؤها السياسيون شرعية دينية، لكنهم اعتمدوا في تحصيلها على دعم علماء الدين، مثل تحالف آل سعود والوهابيين في نجد.
النمط الثالث: سلطات تقليدية «علمانية» Traditional secular authorities:
وهي التنظيمات السياسية التي اعتمد رؤساؤها السياسيون على قبول القوى التقليدية بمجتمعاتهم لرئاستهم وفق أعراف وموازين قوى سائدة، وذلك النمط يشمل الإمارات الصغيرة على ساحل الخليج، والتي شكلت فيما بعد دول: الإمارات، قطر، البحرين، الكويت.
النمط الرابع: حكم النخب «القلة» العسكرية – البيروقراطية Military-Bureaucratic oligarchies:
وهي الدول أو التنظيمات السياسية التي أسسها وحكمها قادة عسكريون، كانوا في الأصل تابعين للدولة العثمانية، ومعينين من قبلها، وغالبا من خارج الإقليم، ثم أعلنوا شيئا من الاستقلال عنها، وإن ظلوا يحكمون باسم الخليفة العثماني. وهذا النمط يشمل مجموعة دول تشكلت في الشمال الإفريقي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مثل دولة محمد علي في مصر، والدولة القرمانلية في ليبيا، وحكم البايات بتونس، وحكم الدايات بالجزائر.
النمط الخامس: الدول التي أسسها وكونها الاستعمار Colonially created states:
وهي الدول التي كانت مجرد ولايات تحكم مباشرة من الدولة العثمانية، ثم قام الاستعمار بترسيم حدودها وتأسيس النظام السياسي بها وفق مصالحه، وتشمل: العراق، وسوريا، والأردن، ولبنان، وفلسطين.1
أهمية هذا التصنيف ليس التذاكي الأكاديمي ولكن هو الخروج من وهم “الوحدة والتجانس” الذي تسرب إلى وعينا – ربما – من الأيديولوجيا القومية، والتي افترضت صراحةً أو ضمنيًا أن الفرقة بين المجتمعات السياسية العربية إنما أتت إليها من قبل العامل الخارجي (الاستعمار)، وأن المجتمعات السياسية العربية (نظرا لوحدتها الثقافية والتاريخية والحضارية) هي مجتمعات متجانسة سياسيا بدرجة مقبولة، فقط ينقصها لتحقيق الوحدة وقيام الدولة العربية الكبرى الإرادة السياسية، لكننا نرى في هذا التقسيم للتنظيم السياسي ما قبل الحديث في المنطقة العربية أننا امام خليط غير متجانس من حيث نمط المؤسسية ومنطقها ومشروعيتها ومدى حداثتها، وهو ما أثر بعد ذلك على شكل ومعدل تكوين الدولة الحديثة من رحم هذه التكوينات السياسية.
ثانيا: الميلاد المبتسر بين تعثر الإصلاح العثماني واعتساف التحديث الاستعماري:
بشئ من الإيجاز يمكن أن نتحدث عن سياقين أساسيين لميلاد الدولة العربية الحديثة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى: سياق فشل مشاريع الإصلاح بالدولة العثمانية انتهاء بسقوط السلطنة ذاتها، وسياق الاستعمار بأشكاله ومستوياته المتباينة. وفي الحقيقة كلا السياقين كانا يحملان معهما مشروعاً تحديثياً مأزوماً (حيث مفهوم التحديث وما يرتبط به من رؤى سياسية واقتصادية وحضارية هو مفهوم شديد الالتباس) ومزعوماً (حيث دوافع ونوايا الأطراف المتبنية لهذا المشروع ومدى جديتها فيه محل شك وتساؤل).
السياق الأول: الدولة العثمانية .. التحديات ومحاولات الإصلاح والسقوط
هيمنت الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر تماما على إقليم الشرق الأوسط، إذ امتدت رقعتها لتشمل كافة دوله باستثناء إيران، والمغرب، وعمان، ووسط الجزيرة العربية، لكن منذ أواخر القرن السابع عشر والدولة العثمانية تتعرض لسلسة من الهزائم العسكرية، والأزمات الاقتصادية، نتيجة التفوق الأوروبي المتزايد بفضل التطور التقني والثورة الصناعية، وكذلك تطور نظم الإدارة والحكم، لتخسر الكثير من رقعتها لصالح القوى الاستعمارية.
بالإضافة إلى التحديات الخارجية، كان هناك نزعة إنفصالية متنامية في الولايات العربية العثمانية منذ القرن السابع عشر، حيث بدأ الحكام المحليون في استغلال ضعف السلطة المركزية للاستقلال بالسلطة، مثل البايات في تونس، ومع النصف الثاني من القرن الثامن عشر، اتسعت هذه الظاهرة، لتشمل المماليك في مصر، ثم أسرة محمد علي لاحقا، وآل العظم بالشام، وضاهر العمر بفلسطين، والأسر القبلية على الشاطئ الشرقي للجزيرة العربية في الكويت والبحرين وقطر وأبو ظبي، بالإضافة إلى انتشار الدعوة الوهابية بالجزيرة العربية.
وفي ذلك الحين نشأ تياران للإصلاح داخل الدولة العثمانية، تيار خلص إلى أن الإصلاح يتمثل في التحديث على النمط الأوروبي، في مؤسسات الإدارة والحكم، وفي التقنيات العسكرية والحربية، وتيار آخر رأى في هذه الإصلاحات خروجا عن صحيح الدين وعن الموروث الإسلامي، وبالتالي عارض عملية التحديث هذه، ودعا إلى الإحياء الديني وإلى التمسط بالتراث الإسلامي.
ومنذ أوائل القرن التاسع عشر بدأت المدرسة الأولى في الهيمنة برؤيتها الإصلاحية، وبعد مقاومة من علماء الدين والفرق العسكرية التقليدية بدأ عصر الاصلاحات المعروف بالتنظيمات (1839 – 1876) والذي شمل بالأساس تحديث المؤسسة العسكرية، ونظام التقاضي، والضرائب، ونظام التعليم، غير أن هذه الإصلاحات أثبتت أنها ربما متأخرة، أو غير كافية، أو ربما كانت في الاتجاه الخاطئ، كما تم التراجع عن الكثير منها في عهد السلطان عبد الحميد.
وقد أدى هذا التراجع في العام 1908 إلى ردة فعل عنيفة من التيار التحديثي، فتمت الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثانيعلى يد جمعية الاتحاد والترقي، والتي تبنت القومية التورانية التركية، وتنكرت للرابطة الإسلامية والتي كانت الأساس الشرعي للخلافة العثمانية، وحولت نظام الحكم من اللامركزية إلى نظام شديد المركزية، مع الأخذ بنظام التتريك في كافة الولايات التي كانت تحت الحكم العثماني.
وإزاء هذه السياسات الجديدة، تنامت المشاعر الوطنية Nationalism المضادة في الولايات العثمانية، من ضمنها الولايات العربية، خصوصا ببلاد الشام، وبدأت تنشط حركة عروبية، تتمثل في سلسلة من المؤتمرات الإقليمية والدولية، وتشكيل عدد من الروابط والجمعيات، السياسية والثقافية، وإصدار عدد من الصحف، وكانت هذه الحركة تهدف غالبيتها إلى الحفاظ على الحقوق العربية في الدولة العثمانية وليس للانفصال عنها.
في وسط هذه الأجواء المضطربة، اتخذت الدولة العثمانية قراراً قاتلاً بالانضمام إلى معسكر ألمانيا والإمبراطورية الهنجارية ضد الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا القيصرية) في نوفمبر 1914، وبرغم تحقيق بعض الانتصارات الأولية، لكن الهزائم المتلاحقة التالية أدت إلى فقدان الدولة العثمانية كافة ولاياتها لصالح الحلفاء والذين وصلوا إلى احتلال أجزاء من الأناضول، وإجبارها على اتفاقية “سيفر” المذلة.
ورفض القوميون الأتراك بقيادة أتاتورك الاعتراف بالاتفاقية، الذي أعلن أن حكومة اسطنبول غير شرعية، لأنها تحت الاحتلال، ليؤسس بعدها مجلسا وطنيا في أنقرة، ويخوض حرب تحرير ضد الحلفاء، ويجبرهم على توقيع “اتفاقية لوزان” عام 1923، والتي سمحت بإقامة الدولة التركية في شبه جزيرة الأناضول، لكن بعدها بعام أعلن أتاتورك إلغاء الخلافة، لتنتهي الدولة العثمانية، كآخر خلافة إسلامية.2
السياق الثاني: التحديث الاستعماري:
مثّل تعثر مشروع الإصلاح العثماني جانباً مهماً من أزمة الدولة العربية الحديثة، إذ يعد فشلاً في تطوير مشروع ذاتي لمواجهة أزمة غياب الفاعلية والرشادة في مجتمعاتنا السياسية ونظمنا الاجتماعية، وكان البديل هو مشروع التحديث الاستعماري الذي مثّل الجانب الآخر من الأزمة، فقد افتقد إلى المشروعية – كونه فُرض قسراً على مجتمعات المنطقة ولم يكن بمجمله خياراً طوعياً لهم – وافتقد كذلك إلى الفاعلية – إذ أنه استنسخ من مشروع تحديث في سياق اجتماعي مختلف تماما وكان يستهدف بالأساس مصلحة المستعمر (كما سنبين لاحقاً).
وقد امتدت الظاهرة الاستعمارية خلال نحو قرن من الزمان لتشمل كافة دول الشرق الأوسط باستثناءات قليلة، ومرت هذه الظاهرة بمراحل ثلاثة:
المرحلة الأولى: امتدت من عام 1830 إلى عام 1880م، وهي المرحلة التي كان الشكل الاستعماري الأبرز فيها هي اتفاقيات التجارة الحرة والامتيازات الأجنبية، حيث اهتمت القوى الاستعمارية في هذه المرحلة بعقد اتفاقيات تفتح الأسواق لمنتجاتها وتوفر مزايا تجارية لمواطنيها، وقد شهدت هذه المرحلة حالتان من الشكل الاستعماري الصريح: الجزائر من قبل فرنسا 1831م، وعدن من قبل بريطانيا عام 1839م.
المرحلة الثانية: كانت مرحلة استعمارية صريحة بالاحتلال العسكري لدول المنطقة، والتدخل المباشر في إدارة شؤونها، واستغلال ثرواتها، وقد بدأت من 1880م وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد شهدت هذه الفترة الاحتلال الفرنسي لتونس 1881م،الاحتلال البريطاني لمصر 1882م، ثم الاحتلال الايطالي ليبيا 1911م، وتقاسم المغرب بين فرنسا وأسبانيا في نفس العام.
المرحلة الثالثة: وبدأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما قررت الدول الأوروبية أن تجهز على الدولة العثمانية وتقتسم أراضيها في العراق والشام. ولكن نظرا للظرف الدولي كان الاستعمار تحت مسمى جديد هو الانتداب، حيث تتعهد سلطات الانتداب ظاهريا بالعمل على «تحضر» الشعوب الواقعة تحت سلطتها، وحمايتها، تحقيق الرفاهية لها، وتجهيزها للاستقلال.3
ونتيجة لذلك، فقد تنوعت أنماط الاستعمار في الشرق الأوسط، فقد تمثلت أحياناً في عقد اتفاقيات للتجارة الحرة مقابل الحماية، في حين تُترك السياسة الداخلية بيد الحكام المحليين كما هي الحالة مع الأسر الحاكمة على الساحل الشرقي للخليج العربي، وأحيانا تتولى سلطات الاستعمار الحكم والإدارة في البلد المستعمر، لكن مع الحفاظ على المؤسسات السياسية القائمة، ودون تقويض عنيف للبنى الاجتماعية مثل الاحتلال البريطاني لمصر، أو الفرنسي للمغرب وتونس، ويعتبر الاحتلال الفرنسي للجزائر نموذجا للاستعمار الأكثر جذرية، حيث يتم تقويض النظام السياسي والبنى الاجتماعية القائمة، وضم المستعمرة قسرياً للبلد المستعمر، مع حركة استيطان واسعة للمواطنين بما يغير النمط الديموجرافي للبلد المستعمرة. أما الشكل الأكثر توغلا من الاستعمار فهو ما قامت به بريطانيا وفرنسا من ترسيم الحدود للدول المستعمرة، وهندسة نظمها السياسية، وتعيين ملوكها وحكامها، وذلك ما حدث على سبيل المثال بالنسبة للعراق والشام في أعقاب الحرب العالمية الأولى.4
وعلى الرغم من التباين الشديد في مدى تغول القوى الاستعمارية في إدارة شؤون دول الإقليم، إلا أن الدول الاستعمارية قد مارست نمطا متقاربا من السياسات في المستعمرات التي حازتها، تتمثل في:
1- تقوية الإدارة المركزية بهذه المستعمرات، وتحديث الجهاز البيروقراطي ليقوم بأدوار أولية مثل تحديد وحصر مواطني هذه المستعمرات، وإدارة الموارد وتقديم الخدمات بشئ من الفاعلية، وكذلك تقوية الأجهزة الأمنية لفرض النظام، وبسط القانون على المساحة التي تخضع لها.
2- إيجاد حلفاء محليين من ملاك الأراضي، والنخب المدنية، وفي أحيان أخرى شيوخ القبائل ورؤساء الأسر، للاستعانة بهم في شؤون الإدارة والحكم، وتقديم بعض المزايا الاقتصادية لهم، في مقابل ضمان ولائهم، ودعمهم للسلطات الاستعمارية.
3- تدعيم الأقليات العرقية والطائفية ضد الأغلبية (المسلمة السنية على الأغلب)، وفتح المجال امام الإرساليات التبشيرية، واتباع سياسة فرق تسد.
4- تطوير الأبنية الاقتصادية، وإنشاء البنوك المركزية، وربط اقتصاديات المستعمرات وعملاتها باقتصاديات وعملات المستعمر بما يضمن استمرار التبعية والهيمنة الاقتصادية.5
ومن هنا يتضح أن عملية التحديث الاستعماري وميلاد أبنية الدولة العربية الحديثة (والمتمثلة في المؤسسات السياسية والاقتصادية والقضائية والتعليمية ونحوها) كانت عملية مشوَّهة، فقد استمرت تبعات هذه السياسات الاستعمارية حتى بعد الاستقلال، حيث اندلعت العديد من النزاعات الحدودية نتيجة سوء الترسيم المتعمد لحدود الدول وعدم مراعاتها للمجتمعات التقليدية وامتداداتها في الإقليم، واستمرت الانقسامات الثقافية بين النخب المستغربة المدنية وتلك الأصولية المحافظة، واستعرت الصراعات الطائفية والعرقية داخل دول الإقليم كنتيجة للتمييز الإيجابي الذي تمتعت به الأقليات في ظل المستعمر، كما استمرت التبعية الاقتصادية بأشكال مختلفة بين المستعمرات السابقة والقوى الاستعمارية بما أعاق الاستقلال الوطني، وأثر سلبا على التنمية الاقتصادية بهذه الدول.
ثالثا: فوضى التفاهمات والاتفاقيات المؤسسة للدولة العربية الحديثة
بعد التعرض بشكل موجز لمشروعي التحديث العثماني والاستعماري التغريبي والسياق التاريخي السياسي الذي تشكلت فيه الدولة العربية الحديثة ننتقل للحديث عن فوضى التفاهمات والمحادثات التي كانت تدور حول المنطقة وإعادة ترتيبها خلال الحرب العالمية الأولى، ومن بين هذه التفاهمات والمحادثات تبرز ثلاثة ثنائيات هامة:
1.مراسلات الشريف حسين – مكماهون: Hussein – Mac Mahon Correspondence
جرت المكاتبات المعروفة تاريخيا بمراسلات حسين – ماكمهون (والتي تكونت من 10 مراسلات) في الفترة من 14 يوليو 1915 إلى 10 مارس 1916، ففور إعلان الدولة العثمانية دخولها الحرب العالمية الأولى في مواجهة الحلفاء سعت بريطانيا إلى ضرب الجبهة الداخلية للدولة العثمانية، وذلك عن طريق استغلال التوتر الحادث بين الدولة العثمانية تحت حكم الاتحاديين والعرب الذين ساءتهم سياسات التتريك والمنحى شديد المركزية للاتحاديين، فاستغل “كتشنر” وزير الحرب البريطاني علاقته السابقة بالشريف حسين وطالب المعتمد البريطاني بمصر سير “هنري ماكمهون” بالتواصل معه لترتيب ثورة عربية ضد الحكم التركي، مقابل دعم قضية الاستقلال العربية. وقد تم اختيار الشريف حسين (شريف الحجاز) لهذه المهمة نظراً لأن نسبه يعطيه شرعية سياسية ودينية، كما أنه كان مشرفاً على الحجاز المنطقة ذات القداسة بالنسبة للعرب والمسلمين، والتي تطل كذلك على البحر الأحمر قريباً من القاعدة البريطانية في عدن.
وقد طالب الشريف حسين بدولة عربية تضم العراق والشام والجزيرة العربية في دولة واحدة، إلا أن مكمهون حاول التهرب من مسألة ترسيم الحدود وتأجيلها إلى ما بعد الحرب، لكن أمام إصرار الشريف حسين وافق ماكمهون على طلب الشريف حسين مع استبعاد بعض المناطق، مثل خط الاسكندرونة – مرسين والمنطقة غرب دمشق وحمص لإعطائها للفرنسيين، ومنطقة البصرة وجنوب بغداد ومنطقة عدن لإعطائها للبريطانيين، ووافق الشريف حسين على ذلك.6
2.اتفاقية سايكس – بيكو: Sykes-Picot agreement
خلال الحرب العالمية الأولي، بدأـ القوى الاستعمارية المهيمنة على الإقليم في التفاوض على تقسيم ممتلكات الدولة العثمانية في منطقة الهلال الخصيب، وذلك عبر الدبلوماسي الفرنسي “فرانسوا جورج بيكو” ومستشار الحكومة البريطانية “مارك سايكس”، بمصادقة من روسيا القيصرية، وقد بدأ الترتيب لهذا التفاوض منذ مارس 1915 (أي قبل 4 أشهر من بدء مراسلات حسين – مكماهون)، وانتهت هذه التفاهمات السرية في مايو 1916، وتضمنت:
أ. إعطاء فرنسا الشريط الساحلي لسورية بما في ذلك لبنان، وولايتي أطنة ومرسين ولونت على الخريطة باللون الأزرق.
ب. منح منطقة أخرى للنفوذ الفرنسي هي «مناطق سورية الداخلية» وتشمل الموصل، ودمشق، وحمص، وحماة، وحلب، ورمز لها على الخريطة بالرمز «ألف».
جـ. منح بريطانيا منطقة ما بين النهرين دجلة والقرات، بما فيها البصرة وبغداد، بالإضافة مينائي حيفا وعكا على البحر المتوسط، ولونت هذه المنطقة باللون الأحمر.
د. أعطيت بريطانيا منطقة نفوذ في مناطق داخلية تمتد من العراق حتى جنوب فلسطين، ورمز لها في الخريطة بحرف «باء».
هـ. إنشاء دولة عربية في المنطقة أ و ب، ربما في إشارة إلى تفاهمات حسين – مكماهون، وهي منطقة كما يبدو، بلا منافذ ساحلية، وتقع تحت النفوذ البريطاني والفرنسي.
و. وضع منطقة فلسطين تحت الوصاية الدولية، ويتم البت في شأنها بالاتفاق مع باقي الحلفاء والشريف حسين.7
3. روتشيلد – بلفور (وعد بلفور Belfour declaration):
واجهت فكرة الوطن القومي لليهود في فلسطين منذ بدايتها رفضاً من السلطنة العثمانية ومن المواطنين العرب، لكن رغبة بريطانيا في كسب الحركة الصهيونية في صفها أثناء الحرب العالمية الأولى كانت سببا في إصدار وزير الخارجية “آرثر بلفور” تصريحه الشهير في نوفمبر 1917م في رسالة إلى الزعيم الصهيوني “روتشيلد” بدعم بلاده إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
وقد أدى هذا الإعلان إلى بدء الخلاف بين الشريف حسين والبريطانيين، الذين أسرعوا إلى محاولة طمأنة الشريف حسين بأنها لن تسمح بهجرة اليهود إلا بالقدر الذي لا يضر بالحقوق السياسية والاقتصادية للعرب، وتعللت بأن فلسطين تقع في الجزء الساحلي الغربي لخط دمشق – حمص والذي وافق الشريف حسين على استثنائه سابقاً، وأن ذلك لا يشمل بيروت فقط8.
هذا الاستعراض السريع لتلك الترتيبات والتفاهمات المتعارضة تكشف لنا جزءاً آخر من أزمة الدولة العربية الحديثة، لعدة اعتبارات منها:
(أ) لم يكن الطرف العربي الذي يفاوض من أجل تأسيس هذه الدولة في مركز يسمح له بتفاوض ناجح مع القوى الاستعمارية، إذ سارع بدفع الثمن عاجلاً وفوراً لهذه القوى (المتمثل في إعلان الثورة وإضعاف الجبهة العثمانية أثناء الحرب) مقابل مكسب آجلٍ وغير مؤكد (وهو إعلان الدولة العربية المستقلة في أعقاب الحرب)، ولم يضع في حسبانه أن أحداً لا يدفع ثمن بضاعة قد حصل عليها بالفعل، خصوصاً إذا لم يكن للطرف الثاني القدرة على إجبار الأول أن يلتزم بتعهداته إذا أخل بها (وعلى الرغم كذلك من تعدد المؤشرات التي تدل على نيته الإخلال بهذه التعهدات).
(ب) أنه في هذه اللحظة التأسيسية الهامة لميلاد الدولة الحديثة في الخبرة العربية غابت شعوب المنطقة عن المشهد وتم ترسيم الدول وتقاسم السيادة لا على أساس مصالح هذه الشعوب وإرادتها، بل على أساس توازن القوى وتوفيق المصالح للقوى الدولية، وهو الأمر الذي ظل يقدح في مشروعية الدول الوليدة وفي فاعليتها ربما حتى وقتنا الراهن.
رابعا: لحظة الميلاد وتعثراتها:
كانت نهاية الحرب هي لحظة دخول هذه التفاهمات حيز التنفيذ، وقد كتبت الغلبة في النهاية للتفاهمات التي تحقق مصالح القوى الاستعمارية، ممثلة في سلسة من المؤتمرات التي عقدت عام 1920 (مؤتمر لندن فبراير 1920، مؤتمر سان ريمو إبريل 1920، واتفاقية سيفر أغسطس 1920 – والتي تم تعديلها لاحقا عقب حرب الاستقلال التركية في اتفاقية لوزان 1923).
وبدون الخوض في تفاصيل هذه الاتفاقيات، فما أسفرت عنه هو تفتيت البلدان العربية ووضعها تحت السيطرة الاستعمارية: مصر والسودان تحت الحماية البريطانية، المغرب وتونس تحت الحماية الفرنسية، العراق (بعد ضم الموصل) وشرق الأردن وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، لبنان وسوريا تحت الانتداب الفرنسي، بالإضافة إلى مشيخات الخليج العربي والتي كانت بالفعل تحت الوصاية البريطانية عبر اتفاقيات ثنائية. 9
أما مراسلات الشريف حسين مع سير ماكمهون فلم تُفض إلى دولة عربية (أو خلافة عربية) موحدة ومستقلة، بل نتج عنها دويلات ثلاثة ممزقة وتحت السيطرة الاستعمارية: مملكة الحجاز والتي حكمها الشريف حسين ثم من بعده ابنه علي بن الحسين (ولكنها لم تستمر طويلا إذ سقطت في يد آل سعود عام 1925)، ومملكة العراق والتي أعطيت لابنه فيصل، ومملكة شرق الأردن والتي أعطيت للابن الثالث عبد الله (وكلا المملكتين كانتا تحت الانتداب البريطاني).
ومن جهة أخرى لم تكن شعوب المنطقة مستسلمة أمام هذه المصير المحتوم، واندلعت الثورات في مصر والعراق والشام، وأجبرت بريطانيا على تسكين ثورة العراق بالتعهد بإنشاء دولة عربية برئاسة الأمير فيصل عقب ثورة العشرين عام 1921، وعلى اعطاء مصر استقلالا اسميا عام 1922 عقب ثورة 1919.
وقد تنوعت أساليب المقاومة العربية، فتمثلت أحيانا في تكوين بعض الأحزاب السياسية والحركات الوطنية الاستقلالية مثل حزب الوفد بمصر، والحزب الدستوري الجديد بتونس، وحزب الاستقلال بالمغرب، وهذه الأحزاب اتبعت وسائل عدة تراوحت بين النضال السلمي بجمع التوقيعات وتقديم العرائض الاحتجاجية والمسيرات والإضرابات وحملات المقاطعة، إلى استخدام الوسائل الأكثر عنفا مثل التفجيرات والاغتيالات.
وفي حالات أخرى، تم إعلان العصيان المسلح ضد المستعمر وخوض حرب استقلال حقيقية، ويعتبر النموذج الجزائري الأكثر ضراوة حيث راح ضحيتها على أقل تقدير سبعمائة ألف شهيد. ومع اختلاف النماذج هذه، إلا أن وسائل المقاومة على تنوعها أثبتت نجاحها وأجبرت المستعمرين على التفاوض والانسحاب، بعد أن زادت تكلفة الاستعمار عن مصالحه المرجوة.10
وقد تحقق الاستقلال الوطني لدول المنطقة على ثلاثة موجات:
الأولي: كانت مصر والعراق أول من حصلوا على استقلال اسمي من الاستعمار عامي 1922، و1932 على الترتيب، وإن ارتبطتا بالدولة المستعمرة بريطانيا بعدة اتفاقيات تتيح التواجد العسكري لها، ولم تحصلا على استقلال حقيقي إلا في خمسينيات القرن العشرين.
الثانية: في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والتي صحبتها وعود من القوى الاستعمارية بمنح الاستقلال في مقابل دعم الدول المستعمرة لها في الحرب، والتي أسفرت كذلك عن تراجع للقوى الاستعمارية التقليدية لصالح صعود القوى العالمية الجديدة (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي)، لينتهى حينها الانتداب على سوريا ولبنان والأردن منتصف الأربعينيات، كما انتهت الحماية الفرنسية على تونس والمغرب عام 1956.
الثالثة: بدأت منذ العام 1196 باستقلال الكويت، وحتى العام 1971، حين حصلت دول الخليج (قطر والبحرين والإمارات) على الاستقلال، وقد كانت الضغوط الداخلية في بريطانيا ضد تكلفة التوسع الإمبريالي السبب المباشر للاعلان البريطاني عن استقلال أغلب هذه الدول. كذلك حصلت الجزائر على استقلالها عام 1962 خلال تلك الموجة.11
لم يتحرك انتقال السلطة من المستعمر إلى النظم الوطنية في المنطقة على وتيرة واحدة، ولم يكن على الأغلب سهلا، فقد ظلت بعض الدول مرتبطة بالمستعمر باتفاقيات تتيح الوجود العسكري، مثل مصر التي رفعت عنها الحماية عام 1923، ثم استقلت رسميا وصارت عضوا بعصبة الأمم عام 1936، إلا أن جلاء القوات البريطانية لم يتم إلا عام 1954، وكذلك تلكأت القوات الفرنسية في الانسحاب من سوريا ولبنان بعد رفع الانتداب حتى عام 1946، وفي أحيان أخرى، رحل المستعمر دون أن يقوم بترتيبات نقل السلطة إلى طرف ما، كما حدث عند إلغاء الانتداب البريطاني على فلسطينعام 1947، ولم يكن للعرب الذين كانوا يشكلون الأغلبية في هذه الدولة مؤسسات حكم وإدارة مهيئة لاستلام السلطة، بينما تمكن الصهاينة بالاعتماد على مؤسساتهم الذاتية من إعلان دولتهم.12
خامسا: العيوب التكوينية التي اعترت الدولة العربية الوليدة:
أدى الميلاد المتعثر هذا للدولة العربية الحديثة إلى إصابتها بعدد من “العيوب التكوينية” أو “التشوهات الخلقية” التي أثرت على مشروعية وفاعلية هذه الدولة، فكما ذكرنا سابقاً، قامت السلطات الاستعمارية “القابلة التي أولدت مجتمعاتنا السياسية الدولة الحديثة” بتطوير نظم الحكم والإدارة، وتطوير الأبنية الاجتماعية والاقتصادية (المؤسسات التعليمية والقضائية والبنوك المركزية ونظام العملة..)؛ لتولد الدولة الحديثة في هذه المنطقة، كما أنها اتبعت سياسات استعمارية لتثبيت هيمنتها، مثل إيجاد حلفاء محليين من كبار ملاك الأراضي والنخب المستغربة، ودعم الأقليات المذهبية والعرقية، وربط اقتصاديات الدول المستعمرة باقتصادياتها، ونتيحة لذلك فقد عانت الدولة العربية الحديثة -حتى بعد الاستقلال- من مشاكل عدة، أهمها:
1. الانقسام السياسي الداخلي: حيث شُكلت الحكومات الأولى للاستقلال في الجمهوريات العربية من مجموعة من القوى المحافظة، تُمثل النخب السياسية المدنية، والتي تُدعم في الأقاليم من قِبل كبار ملاك الأراضي وكبار العائلات، وهي النخب التي كانت مرتبطة بطبيعة الحال بالمستعمر السابق، ولكن هذه النخب واجهت منافسة عنيفة من القوى السياسية القومية واليسارية الصاعدة، والتي دفعتها إلى التلاعب بالانتخابات للحفاظ على هيمنتها على السلطة، مما جعل هذه القوى المعارضة تلجأ إلى الجيوش الوطنية للإطاحة بهذه النظم، وهذا ما تم في سوريا عام 1949، ومصر 1952، والعراق 1958.
2ـ تحدي بناء الهوية الوطنية الجديدة، والحصول على ولاء المواطنين للدولة، خصوصاً أن ترسيم حدود أغلب الدول العربية تم بالأساس على يد المستعمر، ودون أسس قومية أو مصلحية واضحة، كما أن الأيديولوجيات الإسلاموية والعروبية كانت تشن هجوماً شرساً ضد الهوية الوطنية القطرية، بل ومثلت بديلاً منافساً لها وتهديداً واضحاً لشرعيتها.
3. الوضع الاجتماعي المزري الذي يعاني منه أغلب مواطني الدول المستقلة حديثاً، والمتمثل في الفقر والأمية والمرض، مع ضعف مصادر التمويل التي تحتاجها المشاريع القومية اللازمة للتصدي لهذه المشكلات، بالإضافة إلى مشكلات التفاوت الطبقي، والانقسامات المذهبية والعرقية التي أججتها سياسات التمييز الاستعمارية.
4. ضعف مؤسسات الحكم والإدارة في الدولة، خصوصاً بعض الفراغ الذي تركه المستعمر، كما حدث بعد انسحاب الموظفين الأجانب من مصر في أزمة السويس عام 1956، أو انسحاب المستوطنين الفرنسيين من دول المغرب العربي بعد الاستقلال.
5ـ استمرار النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي للقوى المستعمِرة على مستعمراتها السابقة، ففي أغلب الأحوال اشترطت القوى الاستعمارية قبل رحيلها ترتيبات عسكرية وسياسية واقتصادية تعد خرقاً للسيادة الوطنية وضمانه لاستمرار التبعية، وهو ما حدا ببعض المؤرخين إلى اعتبار أن رحيل المستعمر كان في واقع الأمر هو مجرد إعادة توزيع لميزان القوى بين المستعمر وشركائه المحليين لصالح القوى الأخيرة، وليس استقلالاً حقيقياً تاماً.
وأمام مثل هذه التحديات كانت استجابة الدولة العربية الحديثة سلطوية عنيفة، فقد شهدت سلسلة من الثورات/الانقلابات العسكرية، انقسمت بعدها النظم العربية ما بين ديكتاتوريات عسكرية (ذات نظام الحزب الواحد) وملكيات تقليدية استبدادية، كما شهدت مرحلة ما بعد الاستقلال ظاهرة هامة، هي تعاظم قوة الدولة، وتغولها على مجتمعاتها، وهو ما تمثل في مظاهر عدة مثل: تضخم جهازها البيروقراطي، وزيادة حجم أجهزتها الأمنية وقواتها المسلحة، بالإضافة إلى تنامي حجم ودور القطاع العام في الاقتصاد الوطني.
هذه الاستجابة، وإن أظهرت فاعلية أولية في مواجهة التحديات السابقة، لنشهد طوال عقدي الخمسينات والستينيات دولة عربية فتية، إلا أنه – على المدى الطويل- كانت النتائج كارثية؛ إذ أدت الديكتاتورية إلى أزمة مزدوجة خطيرة، فمن جهة أفسدت الدولة باحتكار السلطة واستشراء الفساد وتكون شلل المصالح وتحييد الكفاءات في غياب الشفافية والمسؤولية والمحاسبة، ومن جهة أخرى أضعفت المجتمع وتكويناته، سواء التقليدية (القبيلة والطائفة والمجموعات الصوفية والدينية..)، أو الحداثية (الأحزاب والنقابات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية)، وزادت من اعتماديته على الدولة؛ لذلك عندما ضعفت هذه الدولة منذ نهاية التسعينيات من القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة تحت وطأة عدة عوامل (ذاتية وخارجية – بنيوية ووظيفية)، ضربت الفوضى مجتمعاتنا السياسية بشدة، وظهرت التشوهات القديمة التي كانت تغطيها الديكتاتورية، والتي زعمت الدولة الحديثة أنها تمكنت من التغلب عليها بالفعل.
خاتمة:
حاولت هذه الورقة القاء الضوء على جانب من أزمة الدولة العربية الحديثة المتعلقة بملابسات لحظة الميلاد، وذلك بمناسبة الذكرى المئوية لبعض الأحداث التأسيسية لهذه اللحظة، مثل “مراسلات حسين – ماكمهون”، واتفاقية “سايكس – بيكو”، واندلاع الثورة العربية الكبرى، وخلال المائة عام المنقضية، يمكن رصد عدد من النتائج الأساسية حول هذه الدولة وأزماتها:
1ـ أن هذا النسق من التنظيم السياسي بالمنطقة العربية قد امتاز بشكل عام، خلال القرن الماضي، باعتلال واضح في فاعليته، تمثل في: غياب الاستقرار السياسي وانتشار السلطوية والديكتاتورية علامة على أزمة الشرعية السياسية المزمنة الذي يعاني منها، وتردي مشاريع التنمية الاقتصادية، وتفشي المظالم الاجتماعية، وعدم القدرة على تحقيق الاستقلال الوطني والدفاع عن الأمن القومي بشكل فعال، إلا بالاستناد إلى قوى إقليمية ودولية.
ومع بداية الألفية الجديدة، أصبحت مظاهر الضعف أكثر وضوحاً وأفدح خطورة، فقد سقطت عدة دول في دوامة الفوضى، وأصبحت دولاً فاشلة، واندلعت الثورات العربية؛ لتكشف إحباطات متراكمة وعميقة داخل الشعوب العربية، وعادت الولاءات الأولية الدينية والمذهبية والقبلية والجهوية لتطغى على شعور وقيم المواطنة، وضعفت سيطرة الدولة لصالح ميليشيات مسلحة كوَّنت ما يشبه دويلات صغيرة أو مناطق نفوذ.
2ـ أن التنظيمات السياسية ما قبل الحديثة في المنطقة العربية كانت هشة وضعيفة إلى حد كبير (باستثناء بعض الحالات مثل مصر)، فهي إما كانت ولايات تابعة للدولة العثمانية، بحيث لم تنضج مؤسساتها لتكون نواة لمؤسسات دولة (مثل ولايات العراق والشام)، أو كانت خاضعة بشكل كامل للتنظيمات التقليدية القبلية والطائفية (مثل الحجاز واليمن وساحل الخليج العربي)، علاوة على ذلك، فإن منطق هذه التنظيمات ومشروعيتها كان خليطاً غير متجانس ما بين مشروعيات دينية مثل حكم الأئمة باليمن، أو الهاشميين بالحجاز، أو العلويين بالمغرب، ومشروعيات تقليدية قبلية، مثل إمارات الساحل الغربي للخليج، أو حكم “عصبية مؤسسية” من عسكريين وبيروقراط، مثل دولة محمد علي بمصر.
3ـ أن عملية التحديث كانت متعثرة من جهة ومتعسفة من جهة أخرى، فمن جهة لم يكتب النجاح لمشروع التحديث الذاتي؛ إذ لم تتمكن الأمة من إيجاد حلولها الخاصة لمشكلة التأخر الحضاري والتخلف التي بدأت تستشعرها منذ أوائل القرن التاسع عشر، ولم يمهلها المستعمر حتى بدأ في الانقضاض عليها خلال النصف الثاني من ذلك القرن؛ ليبدأ مع الاستعمار مشروع تحديث آخر متعسف، لا يحترم الطبيعة والموروث الحضاري لهذه المنطقة (إن لم يتعمد هدم هذا الموروث)، ولا يراعي مصالح شعوب هذه المنطقة، بل أقام مشروعاً تحديثياً وفق قالبه هو، وبما يخدم مصالحه.
4ـ أن الترتيبات السياسية التي أسفرت عن ميلاد الدولة العربية الحديثة لم تكن بأي حال من الأحوال معبِّرة عن إرادة الشعوب في هذه المنطقة، ولا عن مصالحهم، فهذه الترتيبات تمثلت في تفاهمات استعمارية من قبيل اتفاقية سايكس – بيكو، وتفاهمات الحركة الصهيونية مع الحكومة البريطانية، وكانت عملية بناء مؤسسات الدولة الحديثة ذاتها تتم وفق أجندة المستعمر، وعلى منهجه (الأنجلوساكسوني أو الفرانكفوني)، ولذلك ظلت الدول القطرية -حتى بعد الاستقلال- تعاني من أزمة شرعية في عيون مواطنيها الذين رأوها مجرد مشروع استعماري للتجزئة والهيمنة، وليست وليداً شرعياً لهم، وهو الأمر الذي استثمرته الأيديولوجيات العروبية والإسلاموية في طعنها على شرعية هذه الدولة.
5ـ أن دولة الاستقلال العربية عندما ورثت تشوهات الميلاد تلك من طعن في المشروعية وانقسامات سياسية وتوترات اجتماعية وضعف مؤسسي وتدهور في الأوضاع الاقتصادية، كانت استجابتها سلطوية عنيفة، فاستطاعت أن تتغلب على تلك المشكلات مؤقتاً لكنها -في المقابل- أوهنت أبنية المجتمع التقليدية (مثل القبيلة والطائفة والمجموعات الصوفية..)، والحداثية (كالأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية..)، وتغوَّلت عليها، حتى إن البعض يرى أن دولة الاستقلال العربية ورثت من دولة الاستعمار منطقه وآلياته في إخضاع المجتمع وإحكام السيطرة عليه واعتصار موارده، ولذا حين اعترى الضعف هذه الدولة لاحقاً لم تقوَ مجتمعاتنا على الاحتفاظ بالحد الأدنى من تماسكها وفاعليتها، وضربت الفوضى العنيفة مجتمعاتنا السياسية(13).
——————————–
الهامش
(1) Kjetil Selvik and Stig Stenslie, “Stability and change in the modern Middle East”, (London: I.B. Tauris, 2011(, 24-26.
(2) راجع: د. عاصم الدسوقي، عوامل الوحدة والتفكك العربي، مؤسسة ابن خلدون، القاهرة، 2001، ص: 19-29. وأيضاً:
Michele Penner Angrist, “Politics & society in the contemporary Middle East” (London; Colorado: Lynne Rienner Publishers, 2010), 9-12.
(3) Selvik and Stenslie, “Stability and change in the modern Middle East”, 28 – 29.
(4) Angrist, “Politics & society in the contemporary Middle East”, 12 – 13.
(5) Roger Owen, “State, power and politics in the making of the modern Middle East”, (London; New York: Routledge, 2004), 7 – 14.
(6) الدسوقي، عوامل الوحدة والتفكك العربي، مصدر سابق، ص 31 – 35.
(7) المرجع السابق، ص ص 36 – 37.
(8) المرجع السابق، 36.
(9) Selvik and Stenslie, “Stability and change in the modern Middle East”, 31 – 33.
(10) Angrist, “Politics & society in the contemporary Middle East”, 15.
(11) Owen, “State, power and politics in the making of the modern Middle East”, 17 -18.
(12) Ibid, 18.
(13) الآراء الواردة تعبر عن آراء كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن “المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية”.
المصدر/ المعهد المصري للدراسات