عرض/ فريدة البنداري
باحثة دكتوراه متخصصة في الشأن الأفريقي
تمثل القارة الأفريقية بحكم الجغرافيا والمصالح الاستراتيجية إحدى أهم دوائر السياسية الخارجية المصرية، وتبرز هذه الأهمية في ثنايا الدستور المصري – سواء في ديباجته أو في مادته الأولى (… الشعب المصرى جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامى، تنتمى إلى القارة الأفريقية، وتعتز بامتدادها الآسيوى، وتسهم فى بناء الحضارة الإنسانية)، ولا شكّ أنّ هذا الأمر يضع على كاهل الباحثين في مجال الدراسات الأفريقية عبئاً ثقيلاً؛ في محاولة منهم لتجسير فجوة تردّي العلاقات المصرية الأفريقية على مدى يقارب الأربعة عقود منذ منتصف السبعينيات، وذلك من خلال تكثيف البحوث والدراسات المتعلقة بالقارة الأفريقية؛ لوضع الأساس العلميّ المناسب لأفقٍ جديد من العلاقات المصرية الأفريقية التي تنبني على قواعد علمية مؤسّسية، حيث تمثّل القارة الأفريقية بعداً هاماً للدور المصري الجديد؛ فهناك الكثير مما تحتاجه مصر من أفريقيا في مجالات عديدة؛ كما أنّ هناك الكثير مما يمكن أن تقدّمه مصر للقارة الأفريقية، خاصةً وأنّ مصر تحتفظ في الذهنية الأفريقية برصيدٍ تاريخيّ إيجابيّ خلال فترة الستينيات؛ حيث دعمت مصر حركات النضال الأفريقي وأيّدت بقوةٍ عناصر القوى التحررية فى إفريقيا فى حربها للتحرّر من الاستعمار، مما يصلح كأساس لبناء علاقاتٍ إيجابية مع دول القارة؛ سواءٌ من خلال إمداد هذه الدول بما تستطيعه مصر من الخبرات والخبراء ومن التجارب والإمكانيات، أو عن طريق الاستثمار والمشروعات المشتركة، وخاصةً مشروعات تعظيم الاستفادة من مصادر المياه فى بلاد المنابع.
وقد نشأت إثيوبيا المعاصرة نتيجة التوسعات الامبراطورية أواخر القرن التاسع عشر، وكان لأسلوب ضمّ تلك الأقاليم الجديدة من جانب، واستبداد الأباطرة وسوء معاملتهم من جانب آخر أثرٌ في شعور تلك الإثنيات السخط، والذي عبرت عنه الإثنيات من خلال عدد من الانتفاضات، حتى تعاضدت مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية لظهور المشكلة القومية لتلك الإثنيات كأحد أهم المشكلات السياسية في إثيوبيا منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين.
لتتحول المشاعر القومية – مع انتشار الأفكار الماركسية للنخبة المثقفة – إلى تمرد سياسي ثم إلى أهداف انفصالية ، وكان لهذه التغيرات دور كبير في تحريك الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بهلا سيلاسي عام 1974، لتستمرّ نفس المشكلة – وإن كانت بصورة أكثر عنفاً – بعد استيلاء نظام الدرج على السلطة عقب إنهائه الحكم الامبراطوري ، حيث تأسس – أو نشط – عدد من المنظمات الإثنية التي أعلنت الكفاح المسلح للحصول على حق تقرير المصير لإثنياتها ، وفي هذا السياق أسس عدد من الرواد اليساريين في أوائل عام 1975 “جبهة تحرير شعب تيجراي” Tigray Peoples’ Liberation Front (TPLF) – والمشار إليها خلال الدراسة بـ”جبهة التيجراي” ، وذلك بغرض الاختصار – ، وتمكنت تلك المنظمة من تحرير مناطق عديدة من سيطرة نظام الدرج من خلال حرب العصابات ، لتطور استراتيجيتها لاحقاً بالسعي إلى إنشاء جبهة موحدة تتولى مسئولية الإطاحة بنظام منجستو، ثم ترثه كنظام سياسي جديد يعيد هيكلة المجتمع الإثيوبي ضمن منظومة تحافظ على هيمنة أقلية التيجراي ، وفي مطلع عام 1989 تحالفت جبهة التيجراي مع “الحركة الديمقراطية لشعوب إثيوبيا” Ethiopian Peoples’ Democratic Movement (EPDM) لإنشاء “الجبهة الديمقراطية الثورية للشعوب الإثيوبية” Ethiopian Peoples’ Revolutionary Democratic Front (EPRDF) – والمشار إليها خلال الدراسة بـ”الجبهة الثورية”، وذلك بغرض الاختصار، وقد أعلنت تلك الجبهة تخليها عن الأيديولوجية الماركسية وتبنّي التوجهات الغربية منذ عام 1990 ، لتحظى بالدعم الغربي الذي مكنها من الوصول إلى السلطة وتحقيق عديد من الإنجازات الداخلية والخارجية، فأكملت الجبهة مسيرة النضال حتى تمكنت مع حركات التمرد الأخرى من الإطاحة بنظام منجستو، ثم عملت كنظام سياسي لإثيوبيا منذ مايو 1991، كما وسّعت إطار عضويتها بضم بعض المنظمات الإثنية الجديدة، لتتشكل الجبهة الثورية – في صورتها النهائية منذ عام 1994 – من المنظمات التالية :
1) جبهة تحرير شعب تيجراي .
2) الحركة الديمقراطية القومية للأمهرا Amhara National Democratic Movement (ANDM) ، والتي نشأت – كما ستوضح الدراسة بالتفصيل – عن تحول الحركة الديمقراطية لشعوب إثيوبيا (EPDM) في عام 1994 من منظمة وطنية إلى منظمة إثنية تمثل مصالح الأمهرا .
3) المنظمة الديمقراطية لشعب الأورومو Oromo Peoples’ Democratic Organization (OPDO).
4) الحركة الديمقراطية لشعوب جنوبي إثيوبيا South Ethiopian Peoples’ Democratic Movement (SEPDM) .
وتسعى هذه الدراسة – كما يشير العنوان – إلى تحليل معالم الفكر والممارسة للجبهة الثورية، وذلك من خلال تحليل البيئة التي نشأت بها تلك الجبهة، والظروف التاريخية التي صاحبت بداياتها، وتحليل الأطر الفكرية والتنظيمية والحركية لتلك الجبهة، باعتبارها أهمّ الحركات الفاعلة في المجال السياسيّ لإثيوبيا منذ مطلع التسعينيات – نظراً لانفصال إريتريا -، لا سيما وقد ظهرت الجبهة كحركة ماركسية، ثم سرعان ما أعلنت التوجهات الغربية، ثم تولت – في ظلّ الدعم الغربي – قيادة التحول الديمقراطي في المجتمع الإثيوبي، والذي انبنى على محورين أساسيين:
المحور الأول: تأسيس نموذج الفيدرالية الإثنية في إثيوبيا، وذلك في محاولة لمعالجة الأزمة التاريخية للاندماج القومي في ذلك المجتمع الذي يمور بالتمردات الإثنية والميول الانفصالية، وخاصةً في ظلّ نجاح إريتريا في تحقيق استقلالها في بدايات التسعينيات، حيث دعم الغرب نموذج الفيدرالية الإثنية كحلٍّ وسيط؛ يحفظ إثيوبيا من التفتّت من جانب، كما يحقّق للإثنيات المختلفة حداً مقبولاً من طموحات الحكم الذاتي من جانب آخر.
المحور الآخر: تحقيق معدلات تنموية متميزة ، وذلك لمعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تمثّل الجذور الحقيقية لمشكلة الاندماج ، والتي كانت سبباً أساسياً لتمرّد الإثنيات المهمّشة وتوجه كثير منها نحو الانفصال عن مجتمع لم يحقّق حداً مقبولا من احتياجاتها.
ورغم الانتقادات العديدة الموجّهة إلى الجبهة على المستويين السياسيّ والاقتصادي؛ فقد نجحت الجبهة – على مدى يُجاوز عقدين من الزمان – من تعزيز الاستقرار السياسي في إثيوبيا؛ وتقليص الميول الانفصالية للإثنيات المختلفة؛ وتحجيم دائرة العنف المسلّح بعد فترة طويلة من العنف المسلح بدأت منذ نهايات الستينيات، مما يوجب تسليط الضوء على هذا النموذج؛ لتحليل تفاعلاته السياسية الداخلية والخارجية ؛ للوصول إلى تقييم متكامل لهذه التجربة الجديدة للهندسة السياسية لإثيوبيا، والتي تمكنت من تحقيق عديد من الإنجازات التنموية، وذلك رغم تواتر انتقادات الباحثين والمعارضة الإثيوبية لهيمنة هذا النظام، وتناقض ممارساته السلطوية مع توجهاته الليبرالية المعلنة، ورغم إقرار تلك الآراء بعدد من الإنجازات التنموية لنظام الجبهة؛ إلا أنها – بحسب تلك الرؤية– لا تراعي العدالة المجتمعية، وإنما ترسخ المحاباة التاريخية وإيثار أقاليم النخبة المهيمنة الجديدة .
وتتضح أهمية الدراسة من خلال الإشارة إلى بعض أبعادها النظرية والعلمية، فمن حيث الأهمية النظرية تمثل هذه الدراسة محاولةً جادة لاستكمال دراسات الواقع الأفريقي في المجال السياسي، وذلك نظراً لقة مصادر وأدبيات الواقع الأفريقي باللغة العربية ، لذا تسعى الدراسة إلى إلقاء الضوء على الواقع الإثيوبي وتفاعلاته السياسية الداخلية والخارجية، ليكون ذلك إضافةً – بحسب قدرة الباحث – لمتابعي الشأن الأفريقي بعلاقاته المتداخلة من جهة، ولصنّاع القرار المهتمّين بدراسة الواقع الإثيوبي من جهة أخرى، وخاصةً في هذه المرحلة الجديدة للمجتمع المصري في علاقته بالقارة الأفريقية ، ولا سيما في ظل تنامي أهمية العلاقات المصرية – الإثيوبية نظراً لعديد من المصالح ، ومن أهمها معالجة المشكلات الناشئة عن بناء سدّ النهضة الإثيوبي .
كما تنبع الأهمية العلمية لهذه لدراسة من أهمية الموضوع الأساسي الذي تسعى إلى تناوله وتحليله ؛ وهو واقع التفاعلات السياسية في المجتمع الإثيوبي منذ نهايات الثمانينيات وحتى الوقت الراهن ، وذلك على عددٍ من المحاور الرئيسية، والتي تتعلّق بمحوري البحث: “إثيوبيا”، “الجبهة الثورية”.
حيث تمثّل إثيوبيا إحدى أهمّ دول القارة الأفريقية ، سواء كان ذلك من ناحية المكانة والرمزية باعتبارها المقرّ التاريخي للمنظمات القارية في أفريقيا، فهي المقرّ الدائم لمنظمة الوحدة الأفريقية منذ نشأتها وحتى إنهاء عملها والانتقال إلى نموذج الاتحاد الأفريقي مع بدايات الألفية الثالثة ، ومقر عديد من المنظمات الدولية والإقليمية كاللجنة الاقتصادية لأفريقيا – التابعة للأمم المتحدة – وأهمّ دول منابع حوض النيل بالنسبة لمصر، إذ تعد مصدراً لقرابة 85 % من ذلك الشريان الرئيسي لموارد مصر المائية من جانب أول، أو من حيث الموقع كأهم دول منطقة القرن الأفريقي ذات الأهمية الاستراتيجية كإحدى أهم البؤر الصراعية على مستوى العالم من جانب آخر، أو من حيث عدد السكان باعتبارها ثاني أكبر التكتلات السكانية في أفريقيا – بعد نيجيريا – من جانب ثالث، مما يحتّم ضرورة إيلائها مزيداً من الاهتمام العلميّ، وذلك من خلال دراسة كافة جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لإثيوبيا، بغية التعرّف على ذلك المجتمع وتحليل كافة جوانبه، لتحديد أهمّ وأنسب المداخل التي تؤسّس لعلاقاتٍ راسخة ؛ تحول دون حدوث أزماتٍ تهدّد أحد أركان الأمن القومي لمصر.
ومن ناحية الجبهة الثورية : تمكنت هذه الجبهة من الاستيلاء على الحكم منذ منتصف عام 1991 وحتى الوقت الحالي – بدايات 2016 – ، وتضمّ هذه الجبهة في عضويتها الرسمية أربعة منظمات تمثل الأقاليم التي تضم حوالي 85% من سكان إثيوبيا – الأورومو والأمهرا والتيجراي وجنوبي إثيوبيا – ، وقد تولى هذا النظام إعادة بناء المجتمع الإثيوبي – للمرة الأولى في تاريخه – على أساس التعددية ، مما مكنه من تحقيق مستويات متميزة من الاستقرار بعد ثلاثة عقود من الصراع الداخلي ، كما نجح في تحقيق مستويات غير مسبوقة من الإنجازات التنموية ، والتي غيرت الصورة الذهنية التاريخية لإثيوبيا من بلد المجاعات إلى نموذج جديد للتنمية، مما يبين أهمية دراسة الجبهة الثورية باعتبارها أهمّ الحركات السياسية الفاعلة في المجتمع الإثيوبي منذ بداية التسعينيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معلومات عن الكتاب
العنوان: الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية
تأليف: محمد أحمد عبد اللطيف
عرض: فريدة البنداري
من اصدرات: المركز العراقي – الأفريقي للدراسات الاستراتيجية، سلسلة عبد الملك عودة الأفريقية.
دار النشر/ مكتبة مدبولي
سنة النشر: 2017.