16 نوفمبر، 2024 5:26 م
Search
Close this search box.

التنصت على جواد الحطّاب التضاد في بدرية نعمة اختياراً

التنصت على جواد الحطّاب التضاد في بدرية نعمة اختياراً

عرض/ الاستاذ الدكتور عبدالكريم راضي جعفر
جواد الحطّاب، شاعر اسميته في تعليقاتي (أمير الفقراء) ، مستنداً في ذلك الى اسم ديوانه الاول: (سلاماً أيها الفقراء) أقول الحطّاب له خطوة متفردة في كتابة النص الشعري،(اقول النص الشعري، اريد القصيدة، وقصيدة النثر)، وهو صاحب فرس تخبّ جاسةً نبض
الكلمات، قبل ان يريقها على ورقه الملوّن، مستنداً الى موهبة راقية تستخلص الحياة من الموت.

أقول الحطّاب، مرةً ثالثة، ذو فهم عقلي يقوده الى تحويل القيمة الموضوعية الى قيمة انفعالية فنية. ومعنى ذلك ان مثل هذا الفهم العقلي لايقرّر السطحي، ولا المباشر، ولا الجاف، لأنه يفتّت المدركات العقلية والحسية، تفتيتاً، يفضي الى بناء جديد في الالتقاطات الاولى،
الى حاسة بصرية غير أنها تدفع بها الى الوراء لتلتقط من عين الشاعر الداخلية.

وفي (قبرها أم ربيئة وادي السلام) ديوانه الجديد الصادر في العام 2016، يستطيع المدقّق الحاذق أن (يتنصّت) على جمله الشعرية التي أحالت اكواماً من الالفاظ الى بناء فنّيّ فريد، قادر على اقامة نص مترع بعافية الصورة الفنية والسردية معاً، على الرغم من مغادرة
الايقاع الشكلي المعروف ليكون في ايقاع عام يتحرّك على وفق نظره الداخلي، وسمعه الداخلي أيضاً، وهو يلتقط مسموعاته، ومنظوراته، لنبصر مخلوقه المتحول من آلام الدم الى حبر..
***
في حركته المتضادة مع المنظوات، يقيم معادلة فنية صعبة، تستغرق لقطة شعريّة، توميء، لا تصرّح ولا تقرّر، لأنها تصدر من وجدان يقظ، يتحرّك في دائرة (أمّ) عراقية اسمها (بدرية) تركت الشاعر: أبنها، وغادرت وحدها الى سماء أخرى، هي ليست سماء الارض،
بسهولها وجبالها، في كل الاحوال.

أن مثل هذا التضاد، قادر على ابقاء النص رطباً، بمعنى انه قادر على ان يستنطق ليونته الدلالية، يقول:
اعرفُ ان اللهُ
صديقُ شيلتها السوداء
كأفراح القديسين (ص12)

التقاطة، تشكل فرزاً لقدرة كتابية فنية، تستحضر (النور) أو ما يومئ إلى (النور)، لرسم تعلّقٍ إيمانيّ غير مشكوكٍ فيه، مستحضرٍ من موت، هو حياة في نظر الناص: الحطاب .
فـ (الله) : نور السماوات والارض، و(صديق): نور، شئنا أم ابينا لأن الله: نور، فصديق الله: نور، و(افراح): نور: تزيين المكان بالنور وسواه من الوان الزينة الدالة على (الافراح.
في هذا النص ـ قلتُ ـ تضاد، وهذا ما تُشير اليه التحديد: النعت(الشيلة) السوداء، إذا كان محدّداً لدينا واقعياً غير ان هذا (السواد) منطفئ بـ (افراح القديسين): الصورة اللونية ذات الوهج الداخلي (للقديسين).

ان معاودة الصورة، بقراءة متأنية تحرّكٌ نحو قراءة جديدة تتنصّت على خطاب الحطاب التصويري فهو يريد اقامة ثنائية الحياة والموت: النور × الظلمة.. وفي هذا تحقّق لطهارة النفس والجسد لـ (بدرية نعمة).
أن التنصت على نص جواد الحطاب هذا، يفضي بي الى القول: ان صورتيه التشبيهيتين: (الله صديق شيلتها السوداء)، و(وشيلتها السوداء) كأفراح القديسين، فيهما ابتعاد عن طرفي التشبيه: المشبه والمشبه به في حدود تصوّر البلاغة العربية، وهذا الابتعاد أو الافتراق،
هو ما نريده في الصورة التشبيهية التحويلية، كما اسميها.. التي تنسجم مع الفهم الثاقب لعبد القاهر الجرجاني، حين اشار إلى ان المشبه به، يجب ان يكون من غير جنسه، وان يكون من النيّق البعيد، وهذا ما تسجله الصورتان الجديدتان اللتان تغادران المألوف.

يقول:
أيوجدُ قبرٌ للايجار جوارك..
فما اعتدت النوم بعيداً عن شيلتكِ البيضاء،
كأحزان القديسين (ص)30

تدبير نصيَ، دُبرَ في مملكة نسميها: الخيال: مصدر الصورة الشعرية هنا إفهام انفعالي قائم على التضاد: الاسود× الابيض:
القبر: إحلال ظلام، و(النوم): ابعاد للضوء = ظلام، و(الحزن)):
يتساوق مع السواد.
وعلى الرغم من ان اللقطة الشعرية تفضي الى التوحّد، والفناء في الآخر(بدرية نعمة)، فأن الصورة التشبيهية التحويلية قادرة على إفشاء دلالة لا يمكن ان ننجو منها . تقول الصورة: (ما اعتدتُ النوم بعيداً عن شيلتكِ البيضاء = احزان القديسين).. هذا تضاد عميق بين
لونين غائرين في مخيلة الناص: الحطاب، إذ أن (شيلة) بدرية نعمة البيضاء، تشبه احزان القديسين.
هنا ـ أيضاً ـ المشبّه به من غير جنس المشبه، ومن النيق البعيد، فكان هذا التضاد المستوي مع اللونين الممزوجين في عين الشاعر الداخلية فقط.. وتلك رؤية خاصة خالصة، هي وليدة تخييلٍ، راقٍ مشبعٍ بالعشق، ولا أقول بالحب، لأن العشق أرقى مراتب الحب عند
العذريين والمتوحّدين والموحدين.

ويستطيع التضاد ـ في لحظة شعرية ـ أن يلمّ مشهداً متوتراً، يقول:

الفرح: مدين لأُمي
فحين بكتْ..
اجتمع حزن العالم في عينيها (ص42)

هنا، المهمة ليست هيّنة على ناص، مرتبطٍ بامرأةٍ اسمها:
(بدرية): هي أمه، ولذلك بدا (الفرح) متوهّجاً تماماً من جملة المبتدأ والخبر التي جسدت الفرح: (الفرح مدين لأُمي)، وهذا التوهّج نتاج تضاد يتمحور في جملة الفعل والفاعل (بكتْ).. التي تقابل الفرح، ثم الايغال في (الحزن) المرسوم في عينيها، وهو أمر يشكل بؤرة
لامة، يجتمع عليها كون الارض، لتعميق حدّة (الفرح) فكان ذلك. بمعنى آخر ان التقاطة الفرح والحزن، يعني الحياة والموت، الحياة بعد موتها، وحزن العالم عليها.
ولا يبتعد الحطّاب عن اقامة التضاد المرتبط بالحياة والموت، فهو مرتبط بهما من خلال موت (أُمّ) واشهار مثل هذا التضاد، علامة على اقامة الرابطة، يقول:

أقول لصور القديسين
للأولياء الذين تراقبني أَعينهم
بحنو واشفاق
أنا في حرزٍ مكين
فمعي بدرية نعمة(ص13).

في النصّ، اقامة لعلاقة تومئ، ولا تشير، وفي هذا شعرية عالية، مطلوبة في الشعر والنصّ الشعري.
أن معاودة اللحظة الشعرية، كفيل باعادة انتاج ما أنتجه الحطّاب.. وذلك يعني (التنصّت) .. من هنا، تكون الجملة الشعرية (تراقبني اعينهم) ، حياة: نور، والجملة:
(أنا في حرز مكين)، صورة كنائية تومئ الى الرحم: رَحم الأم، وفي هذا ظلمة أمانٍ، لا ظلمة فقدان أمان، وفي هذا كشف (الحياة) في الصورتين.. وفي هذا ـ أيضاً- مغادرة للمألوف.

ومثل ذلك تضاده:

… وما أدراكِ، وأنتِ نائمة
تتونّس الملائكة
بحياكة ذنوبك اللامرئية، حسنات(ص15).

هنا، تفتيت مدركات حسّية، قائم على إحلال بدائل ينسجها التخييل المرافق لوجدان يقظ.. وهذا ما اشتغل عليه السؤال:
(وما أدراكِ؟) الذي يحتمل ان يكون سؤالاً تعجبياً، يُشير إلى (حياة) على الرغم من (وأنتِ نائمة) التي تفتح باب (الظلمة): النوم: الظلمة.. وفي هذا تعجيل بظهور (حياة): (تتونس الملائكة) .. وفيه حياة، غير ناسين (حسنات): حياة.
أن في مثل هذا التحويل قدرةً نصّية على اشتغال الرؤية الخاصّة الخالصة، التي تفتّت المدركات العرفية، لتبني بناءً فنياً، قادراً على إقامة الفن الذي يغادر المألوف.
وإذا ما احتجت إلى نصّ يفرغ دلالته التي تفضي إلى (الحياة) وتحويل الموت إلى حياة.. فأنني اقرأ:

في (مسند) الحطّاب

أن الربّ وجدك نامية على ضفاف سومر،
فأستخرجكِ من لحاء الطين،
ومن منكهات القرنفل، والقصب..
وقيل لطفولتك ضوع توابل اخرى (ص16).

واقرأ ايضا:

في (مسند) سومر،
ناء قوس الليل باقماره المتصالبة
فهبطت الالهة من الاعالي
الآتون..
لسدّ شقوق الريح برقائق الذهب
مروا على بيت الالواح
استودعوكِ الناموس، وارتفعوا(ص17).
.
التقابل النصّي، بين النصّين يفضي الى اسناد الحياة، حياةً أخرى، هي من خلق الحطّاب، الذي تعرّش فيه تخيلات قادمة من منطقة غير حيادية بمعنى آخر: انها منطقة منحازة الى (الحياة) ، تماماً ورافضة الموت.
.
في (مسند) الحطّاب، اضاءة ساطعة تفرزها كلمة (نامية)، المتحولة من (نائمة) ، وفي ذلك دلالة حياة، و(ضفاف) حياة، و(لحاء الطين): حياة.. الخ.
فلا معنى للموت، أو لأقل تحوّل الموت في وجدان الحطّاب الى ما ينسج حياة.. ربما تكون حياة اخرى، لكنها تغادر الموت.

وفي (مسند) سومر. اضاءة شفيفة.. تتلخص في الجملة الشعرية: (ناء قوسُ الليل): ابتعاد الموت = حياة، و(رقائق الذهب): صورة لمعانٍ = حياة، و(استودعوا الناموس، وارتفعوا): سمو وحياة.
هكذا يحوّل الحطّاب، موت (بدرية نعمة) الى حياة، لتعلّقه، وتوحّده بحياتها وإذا ما احتجتُ إلى ما يسند الى ما ذهبتُ اليه، فأن (بدرية) أقصد معنى الاسم: من البدر، وفيه اضاءة = حياة، و (نعمة) ، فيه معنى: الحياة، و(ربيئة) = فضاءً عالياً سامياً ثم (السلام): نضارة
الحياة.
.
ان التنصّت على جواد الحطّاب، به حاجة الى مقاربة تحليلية جديدة، ربّما ترشدني الى سر (التخيّل) وهو نوع من الخيال الفني، الذي يتمتع به.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة