عرض : رشا العشري
(القاهرة : مطبعة مصر، الطبعة الثالثة، 1925)
يعتبر كتاب الإسلام وأصول الحكم من أهم الكتب الفكرية التى أثارت جدلاً في الأوساط الفكرية الإسلامية والفقهية .
حيث تقول الفكرة الأساسية للكتاب إن الخلافة ليست أصلاً من أصول الإسلام, وإنما هي مسألة دنيوية وسياسية أكثر منها دينية, وأن القرآن الكريم والحديث النبوي لم يوردا ما يبين, من قريب أو بعيد, كيفية تنصيب الخليفة أو تعيينه, وذلك لأن هذا التنظيم اختراع بشري أو اجتهاد من قبل صحابة الرسول “صلى الله عليه وسلم”, لجأوا إليه ليحافظوا على تماسك الجماعة المسلمة بعد وفاة النبي. ثم اعتبر عبد الرازق الخلافة نكبة على الإسلام والمسلمين, وينبوع شر فاسد وراح يسرد من معطيات التاريخ ما يبرهن على هذا الرأي الصادم في وقتها.
وينقسم الكتاب إلي ثلاثة كتب فرعية, الأول عن الخلافة والإسلام والثاني بعنوان الحكومة والإسلام أما الثالث فيدور حول الخلافة والحكومة في التاريخ .
رأي عبد الرازق في الخلافة
وبعد تعريفه الخلافة من الناحية اللغوية والتاريخية, ثم تناول كيفية تحولها إلى ملك على يد الأمويين, يؤكد عبد الرازق أن القرآن الكريم قد خلا من أي إشارة إلي الخلافة, ويقول: لم نجد فيها من مباحث العلماء, الذين زعموا أن إقامة الإمام فرض, من حاول يقيم الدليل على فريضته بآية من كتاب الله الكريم. أو كان في الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء في التنويه والإشادة به, ولو كان في الكتاب الكريم ما يشبه أن يكون دليلاً على وجوب الإمامة لوجد من أنصار الخلافة المتكلفين بالتصريح عنه, وأنهم لكثير, من يحاول أن يتخذ من شبه الدليل دليلاً. ولكن المنصفين من العلماء والمتكلفين منهم قد أعجزهم أن يجدوا في كتاب الله تعالى حجة لرأيهم فانصرفوا عنه إلى ما رأيت من دعوى الإجماع تارة, ومن الالتجاء إلى أقيسة المنطق وأحكام العقل تارة أخرى.
الخلافة في السنة
يذهب عبد الرازق إلى أن السنة أيضاً تخلو من حديث مباشر وواضح وقطعي عن الخلافة, فيقول: ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة, ولم يتصد لها, بل السنة كالقرآن أيضاً, قد تركتها ولم تتعرض لها.
ويؤكد عبد الرازق أن الأصل في الخلافة عند المسلمين أن تكون راجعة إلى اختيار أهل الحل والعقد, والبيعة الاختيارية, أما الملك فمن الطبيعي أن يقوم في كل أمة على الغلب والقهر.
الحكومة والإسلام
نظام الحكومة في عصر النبوة
القضاء
كان القضاء بمعني الحكم في المنازعات وفضها موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما كان موجودً عن العرب وغيرهم قبل أن يجئ الإسلام. وقد رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم خصومات فقضى فيها. وقال صلى الله عليه وسلم “أنكم تختصمون إليًّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً بقوله، فأنما أقطع له قطعة من النار، فلا يخذها”.
حيث يوضح عبد الرازق أن استنباط أي شئ في القضاء في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن باليسير، بل كان حال القضاء في زمنه غامض ومبهم، ومن ثم لم يكن سهلاً على الباحثين معرفة هل وليًّ صلى الله عليه وسلم، أحداً غيره في القضاء أم لا. إلا أن هناك ثلاثة من الصحابة يعدهم جمهور العلماء ممن ولي القضاء في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بعضم في ذلك ” وقد ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاء لعمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، معاذ بن جبل رضى الله عنهم”.
شكل الحكم في الإسلام
ويستعرض عبد الرازق بعض الأدلة على فساد الحكم واستبداده بعد الخلافة الراشدة, ثم يبدي مرونة عالية في تصور شكل الحكم في الإسلام, فيقول: إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحاً ما يقولون, من أن إقامة الشعائر الدينية, وصلاح الرعية, يتوقفان على الخلافة, بمعنى الحكومة في أي صورة كانت, ومن أي نوع. مطلقة أومقيدة, فردية أو جمهورية, استبدادية أو شورية. ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية, لا ينتج لهم الدليل أبعد من ذلك. أما إن أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص من الحكم الذي يعرفونه فدليلهم أقصر من دعواهم, وحجتهم غير ناهضة.
ويذهب عبد الرازق إلى أـبعد مدى فيقول: “ليس يبنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا, ولا لأمور دنيانا. ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك, فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام وعلى المسلمين وينبوع شر وفساد”.
نظام الحكم
يرى عبد الرازق أن نظام الحكومة النبوية لم يتضح لعامة المسلمين أو قد خفى خبره على المسلمين، إلا أنه كان المثل الأعلى في الحكم، ولكن يظل هذا النظام مبهمًا، خاصة وأن ما يعرف اليوم بأركان الحكومة، وأنظمة الدولة، وأساس الحكم، إنما هي اصطلاحات عارضة، وأوضاع مصنوعة، وليست هي في الواقع ضرورية لنظام دولة نريد أن تكون دولة البساطة، وحكومة الفطرة، التي ترفض كل تكلف، ومن ثم فإن ما يمكن ملاحظته عند الدولة النبوية هو خلوها من تلك المظاهر التي صارت اليوم عند علماء السياسة من أركان الحكومة المدنية، وهي في حقيقة الأمر غير واجبة، ولا يكون الإخلال بها حتماً نقصاً في الحكم، ولا مظهر من مظاهر الإخلال. ومن ثم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يمارس نوعا واضح المعالم من الحكم, أو السلطة السياسية.
الملك والرسالة
يذهب عموم المسلمين وكذلك العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم ملكاً ورسولاً، وأنه أسس بالإسلام دولة سياسية مدنية، كان هو ملكها وسيدها، ومن ثم يملون إلى اعتبار أن الإسلام وحدة سياسية ودولة أسسها النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد سار على نفس النهج ابن خلدون، الذي أوضح في مقدمته، أنه جعل الخلافة التي هي نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسية الدنيا، شاملة للمُلك، والملك مندرجًا تحتها.
حيث يفرق عبد الرازق بين الرسالة والملك, ويرى أن محمد صلى الله وسلم كان رسولا فحسب, فبالنسبة له, الرسالة مقام, والملك مقام آخر. وهناك يقول: كم من ملك ليس نبياً ولا رسولا. وكم لله جل شأنه من رسل لو يكونوا ملوكا بل إن أكثر من عرفنا من الرسل إنما كانوا رسلا فحسب.
ويطلب ممن يريد أن يحاججه في هذا الأمر أن يمعن النظر في القرآن والسنة ويبحث فيهما عن أي صيغة للحكم في الإسلام فلن يجد شيئاً ذا بال, وهنا يتوجه إلى من يشكك في هذا الأمر ويقول له: التمس بين دفتي المصحف الكريم أثرًا ظاهراً أو خفياً لما يريدون أن يعتقدوا من صفة سياسية للدين الإسلامي. ثم التمس ذلك الأمر مبلغ جهدك بين أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. تلك منابع الدين الصافية متناول يدك, وعلى كثب منك, فالتمس فيها دليلاً أو شبه دليل, فإنك لن تجد عليها برهانًا, إلا ظنا, وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً.
خاتمة
الخلافة ليست نظاماً دينياً
ينهي على عبد الرازق كتابه باعتبار أن الخلافة ليست نظاماً دينياً, وليست نيابة عن صاحب الشريعة, وأن ما قيل في هذا الاتجاه لم يكن سوى ترويحًا واضحًا لمسألة خاطئة بما يحقق مصلحة السلاطين. وهنا يقول: الخلافة ليست في شئ من الخطط الدينية, كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة, وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة, لا شأن للدين بها, فهو لم يعرفها ولم ينكرها, ولا أمر بها ولا نهي عنها, وإنما تركها لنا, لنرجع فيها إلى أحكام.
ويرى بعض المفكرين والمنتقدين لفكر على عبد الرازق أن المزية الكبرى لكتاب الإسلام وأصول الحكم ليست فقط إعطاءه مثلاً في استجابة الفقه للظرف السياسي, حتى لو أنتج رأيًا عليه مطعن أو اجتهد اجتهاداً عليه مأخذ, بل أيضًا معالجته لقضية تتجدد باستمرار في واقع المسلمين, ولا تلوح في الأفق أي بوادر لإمكانية تبددها في المستقبل المنظور, بل إن وطأتها زادت مع صعود نفوذ الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي, أو التي تتخذ من الدين الإسلامي أيديولوجية أو إطار لفكرها وممارستها في المجال العام.
يزيد على ذلك أن الكتاب في حينه كان يبدو ثورة فكرية أو خروجاً ظاهرا على رؤي تقليدية, بغية تأسيس مسار مدني للدولة الشرقية, التي كانت لا تزال خارجة لتوها من فلك الصيغة الإمبراطورية .
لكن المزية الأكبر لهذا الكتاب, كما يرى بعض المفكرين, هي أنه لم يسقط بالتقادم, أو يحال إلى تاريخ المعرفة, بل لا يزال حياً بين ظهرانينا, وكأن صاحبه قد فرغ من تأليفه في اللحظة الراهنة, أو تلك المتوقع أن نحياها, ولا فكاك منها, وكما أنها تعيش بيننا عيانًا بيانًا, فإنها قادمة لا ريب فيها. وتبقى هذه السمة قائمة في فكرة الكتاب ومضمونة, حتى لو كان صاحبه قد انحرف عن دوره, أو قام بدور لا يروق لكثيرين .
وبتركيز أشد يأخذ الخضر على عبد الرازق ما يراها مثالب ونقائص واضحة فاضحة هي:
– ينظر عبد الرازق إلى الإسلام في قضية الدولة أو علاقته بالسياسة بالمنظار نفسه الذي رأت به النهضة الأوروبية المسيحية الكاثوليكية, ومن ثم فإن كتابته ينطوي على تغريب وليس على تجديد .
– ما كتبه ليس نابعا من قصور الفهم, إنما من إرادة واضحة ترمي إلى قلب الحقائق. – بنى استدلاله على أن سلطة الخليفة مستمدة من سلطان الله, أي ليس على ما جاء الفقه, لأن مثل هذا غير موجود بالمرة, إنما على ما جاد به الأدب العربي, شعراً ونثراً . – الإحالة إلى الغربيين وكتب المستشرقين في الاستدلال الفقهي والشرعي, وهذا أمر معيب, إذ إن من الممكن قبوله فقط في الاستدلال على التاريخ والثقافة . – على عبد الرازق مفتتن بزخرف الحياة الإفرنجية . – يقع عبد الرازق في التعميم التاريخي الخاطئ بتصوير الخلافة على أنها نظام قهر دائم, واستبداد مقيم. – الاحتجاج بالخلافة العثمانية كنموذج تتسف به الخلافة عامة هو أمر قاصر, لأن التصور السياسي في الأسلام حجة على هذه الخلافة وليس تعبيرا عنها. – إن استدلال عبد الرازق في رفضه للخلافة على أن القرآن لم يذكرها أو يشير إليها هو أمر جانبه الصواب, فالفقهاء يعتبرون الخلافة من فروع الدين, وليس بالضرورة أن ينص القرآن على الفروع, وهو المعنى بالأصول. –