خاص: إعداد- سماح عادل
هل تعتبر الكتابة نوع من أنواع المقاومة، المقاومة لأوضاع بائسة، المقاومة لعبثية الحياة، المقاومة للظلم والطبقية، المقاومة للشعور بالاغتراب، المقاومة لتهيش الكاتب وتحييد دوره.
هذا الملف عبارة عن آراء كاتبات وكتاب من مختلف البلدان وقد وجهت إليهم الأسئلة التالية:
- هل شعرت بأنك مختلف منذ فترة الطفولة وشعرت بأن ميلك إلى الكتابة هو سبب اختلافك؟
- هل عاملك الأهل داخل الأسرة كأنك غريب عنهم أو لا تشبههم، وكيف كان تقبلهم لميلك إلى القراءة والكتابة؟
- هل كنت تفضل الانعزال عن المحيطين من أفراد الأسرة وهل سبب لك ذلك الانعزال الشعور بالغربة عنهم؟
- هل كنت تتمني أن يتعامل معك الأهل والمحيطين بشكل مختلف؟ .
- هل أنت نادم علي شغفك بالكتابة والقراءة وهل كنت تتخيل حياتك بدون الكتابة؟
عالم مواز أكثر رحابة..
يقول الكاتب الجزائري “جيلالي عمران”: “لأبدأ من السؤال الأخير والمهم في اعتقادي بعد هذا المشوار الطويل مع الحرقة ومطاردة الأفكار والحيل والشخوص، إذ لا أتصور أبدا أني أعيش بعيدا عن الكتاب (قراءة أو كتابة) ولو لفترة قصيرة، كوني أرى أن هذا الكتاب أنقذني بشكل ما من الانتحار أو من الضياع التام. ولم أندم أبدا أني عشت حياتي بهذا الجمال داخل مملكة الخيال، كما أريدها.
صحيح أن الكتابة لا تمنحك أموالا طائلة، لكن تمنحك بدائل كثيرة من سفر دائم، وأصدقاء كثر من عوالم بعيدة، يكفي أني التقيت بكتاب ومثقفين كثيرين من مختلف المشارب والأفكار والبلدان، يكفي أن الكتابة أوصلتني إلى منابر ومنصات وفضاءات ليست يسيرة على الأشخاص العاديين، بفضلها تلقيت الثناء والاعجاب والتقدير والذّم أيضا والمشاكل أحيانا. في نهاية الأمر الكتابة متعة ومشقة في آن واحد، تنقذك من الاضمحلال والموت البطيء”.
ويضيف: “شكرا جزيلا لأنك أعدتني بهذه الأسئلة المفخّخة إلى أربعة عقود كاملة، حيث عشت الاغتراب حقيقة داخل البيت، مع أني أتربع على ركن ما لأتولى زمام الأمور سردا وحكيا لا ينتهي عما رأيته في البلدة الصغيرة (حيث لا ماء في الحنفيات أو الكهرباء ولا مكتبات أو كتب في أكواخنا الطينية). كنتُ مولعا بتلك الغرائبية التي أسرد فيها الأخبار العادية والتّافهة في الغالب وأحولها ببساطة إلى أقصوصة يصعب تصديقها مع أنها حدثت للتو في مكان ما وبالقرب من كوخنا.
وأدخل في جدال مع أهلي بسبب تلك المغالاة في الوصف والسرد، كيف يكذبونني؟ كنت أتذمر من عدم تصديقهم لي مع أن حكيّي كان متدفقا وممتعا ومليئا بالشعرية المنقطعة النّظير، أين الخلل؟ في أم في ذائقتهم البليدة؟”.
ويواصل: “طفولتي مليئة بهذا الهبل الجميل، مولع إلى حدّ التهور بالحكيّ، حيثما كان أي حدث جديد وغريب كنتُ هناك أترصد حيثياته وتفاصيله وأسئلته لأحوله لاحقا إلى قطعة فنية، في تلك السنوات البعيدة اقترنت عزلتي ببدايتي في خربشات طفولية بريئة، في الغالب هي رسائل غرامية كنت أبدع في كتابتها، على ما يبدو ليس حبا في تلك المعشوقة بقدر ما هي تمارين في فن الكتابة لا غير.
في تلك الفترة البعيدة جدا أداوي جراحي بالقراءة، أواجه مشكلاتي الصغيرة بالغرق البهي في القراءات الكثيرة، لا سبيل آخر سوى الهروب إليها، فتلك الكتب الأولى شكلّتني وجعلتني قويا، وربما متميّزا وربما متفوقا، كنت أحصل عليها بالاستعارة من المركز الثقافي وبعضها تحصلت عليها بالسرقة. ويرون قراءاتي تلك مضيعة للوقت لا أكثر، والبعض الآخر يراها مجرد فنتازيا في الوقت الذي كانت أفواه أفراد العائلة تنتظر لقمة العيش، الوحيدة التي تتقبّل هبلي بتعاطف كبير هي أمي، لعلّها تشبهني في لوثة الحكيّ”.
ويتابع: “بصراحة كانت عائلتي الصغيرة تعاملني بحذر شديد أمام تخيلاتي وهلوساتي الصبيانية وربما إلى الآن مازالت تنظر إليّ بنوع من الشفقة (أهلوس). فقط نجاحاتي الأدبية (القليلة) تجعلها تفتخر وتعتز بالإنجاز الكبير لفترة قصيرة. وأحيانا هذا النجاح أيضا يسبب لك المتاعب غير المتوقعة من الحسد والغيرة والتشكيك والتضييق والتآمر.
أتذكر أول اغتراب حقيقيّ عشته في بيت العائلة كان في بداية التسعينيات، إذ نشرتُ أول قصّة قصيرة في صحيفة وطنية، جئت إلى البيت مسرعا لتشاركني العائلة الفرحة الكبرى، لم يحصل أي شيء، كأن الأمر عادي جدا، مرّت لحظات قاسية في حياتي ثم انسحبتُ إلى عزلتي حيث شخوص ورقية ينتظرونني هناك بمحبة، كانت ليلتي صعبة، شعرت بأني أفكر خارج الصندوق تماما، لم يعد أمامي خيارات أخرى سوى الانغماس كليّا في عزلتي الدائمة وإلى اليوم. تجدني في هذه اللحظة بالذات أكثر انعزالا من أي وقت مضى مع أني أظهر في المناسبات العامة والخاصة”.
ويكمل: “طبعا كنت أتمنى أن تعاملني العائلة بشكل مختلف، لكن هذا ليس مهما، ولن يقف أحدهم أمام حلمك الكبير إن أحببت عالمك، لن توقفك تلك الحواجز والعزلة أبدا إن أحببت القراءة لذاتها وليس لغرض آخر وهذا حتما سيؤدي إلى مرحلة لاحقة أين تكتب قصتك الفريدة، أحلامك الكثيرة.
الكاتب بالضرورة يعيش عزلة واغترابا في مجتمعه الصغير، مهما حاولت مسايرة تفكيرهم المنغلق فأنت تضطرك التفاصيل المملّة لتعود بحب كبير إلى عالمك الداخلي، الموازي، الأكثر رحابة”.
الكتابة مقاومة وانتصار..
ويقول الكاتب الجزائري “عبد الله الهامل”: “كان من حظي أني ولدت بقرية صحراوية بعيدة ونائية بجنوب الجزائر اسمها تبلبالة. بعيدة عن العالم، أقرب مدينة لها تبعد ب 400 كلم، واحة صغيرة يعرف سكانها بعضهم ويعرف الكل تفاصيل حياة الكل، لم تكن لأبواب البيوت أقفال ولم يكن فيها الخوف، كل شيء مطمئن على كل شيء، بسماء كبيرة وببيوت الطين وحتى بدون كهرباء، كان الراديو هو وسيلة الإعلام الوحيدة لمعرفة ما يدور بالعالم زمن سبعينيات القرن العشرين.
ولدت وكبرت في هذا الجو وسط النخيل والجديان وحكايات الجدة، ولوحة القرآن، شغف الكتابة ولد هنا، لكنه كبر عندما نفيت من هذه الجنة وعرفت المدن الباردة وفقدت السماء الكبيرة وكوشة الطين والنوم على حجر جدتي تحك شعر رأسي في آخر الحكاية عندما ينتقم البطل من الغيلان ويحرر الصغار.
في طفولتي كنت متفوقا بالدراسة وسريع الحفظ، رغم أن بصري كان ضعيفا، فقد عشت تجربة الموت الحقيقية في سن الخامسة إثر سقوطي من سطح دار جدتي على رأسي، حتى أنهم قالوا أني غادرت الحياة. وتم نقلي إلى المدينة الكبيرة على مسافة 400 كلم وبقيت مدة طويلة في غيبوبة، ولما عدت إلى قريتي عاودت السقوط من السطح ونجوت وأخذت لقب (سبع أرواح) من أقراني. ثم بعدها نجوت كثيرا من فخاخ الحياة”.
ويضيف: “أنا أكبر أخوتي عند أمي، الوالد مزواج وهو شخصية كاريزمية ورجل قوي من المحاربين القدامى في ثورة الجزائر، أمي فلاحة وطيبة ولها شخصية قوية، الأسرة كانت تسعد بتفوقي الدراسي وتوقعوا لي دوما أن أكون طبيبا أو ما شابه، لكني دافعت عن خياري الأدبي في الثانوي لأني وجهت إلى دراسة الرياضيات، اخترت شعبة الأدب عن قناعة ودافعت عن خياري بشراسة. ونجحت نوعا ما بعدها في الجامعة وعملي الصحافي سنوات الدم في الجزائر، ثم العمل في الإدارة الثقافية بمدن كثيرة”.
ويتابع: “أنا من أسرة كبيرة العدد، الوالد مزواج خلف عشرين طفلا وطفلة من أربع نساء، كبرنا تحت حمايته، زمن سبعينيات القرن العشرين في جزائر خرجت من حرب كبيرة واستعمار ظالم وبقرية معزولة، كانت طفولة صحراوية رائعة، لم ينقصنا شيء، كان النظام الاشتراكي للدولة يوفر للتلميذ المتمدرس كل شيء، اللباس والغذاء الجيد والأدوات المدرسية وحتى الرحلات المنظمة إلى البحر بمدن الساحل (أكثر من الف كيلومتر) وكله بالمجان.
عشت هذه الطفولة الفردوسية بامتلاء، لم يكن هناك طبقية اجتماعية، كان أبي هو شيخ البلدية لكن لم يكن يوجد فرق بيني وبين ابن حارس البلدية أو ابن الزبال أو ابن الفلاح.
تعلمنا في المدرسة الوحيدة وحفظنا القرآن من إمام واحد ولعبنا نفس الألعاب وتشيطنا معا، كان معنا أقران ملهمون يعرفون اصطياد الطيور والنجاة من عقاب الكبار. ثم كبرنا وانتشرنا في العالم وما زلنا نبحث عن طريقة للنجاة من ربقة الوجود بأقل الأضرار.
الشعر علمني طريقة أخرى للنجاة، أن تقاوم زيف الحياة بتزيينها بالمجاز والبلاغة، أن تتحايل على الموت بأن تنظر إليه بعيون مفتوحة لا مبالية ولا ترمش. في شبابي الأول وجدت نفسي بالجامعة بين تلمسان ووهران في بداية تسعينيات القرن العشرين وبداية الانفتاح الديموقراطي المعطوب بالجزائر، ثم حرب الاستنزاف التي دمرت البلاد.
انخرطت في الصحافة المكتوبة بوهران كشكل من أشكال مقاومة الهمجية الظلامية، استشهد أصدقاء كثر وقتها ونجوت أنا من القتل، كنت أقاوم بالشعر والحب وببعض البوهيمية للانتصار على هذا العبث الوجودي”.
يكمل: ” بعدها ترجاني الوالد والوالدة العودة إلى شجر العائلة خوفا علي من القتل، بعد تردد قررت العودة الى الصحراء واخترت منفى بعيدا هو تندوف (2000 كيلومتر) عن العاصمة، حيث بدأت حياتي من جديد ومن الصفر.
اشتغلت بالإدارة الثقافية في هيئة حكومية، وزادت هذه العودة إلى الصحراء ارتباطي بالكتابة الشعرية والترجمة خاصة، حيث أن الزمن بالصحراء ممتد ويمنحك كل الوقت كي تبحث عن المعنى المنفلت.ترجمت “صمويل بيكيت وماريفو وراي براد بيري وصفية كتو وجمال عمراني و أخرين”.
ويؤكد: “أصدرت من هناك أول كتبي الشعرية (كتاب الشفاعة) وتزوجت وبنيت بيتا وأنجبت أطفالا مثلما يفعل الناس. ثم كبرت مرة ثانية وأصبحت كهلا وأصدرت بعض ترجماتي وكتابا شعريا عنوانه (صباحات طارئة).
ثم كتابا شعريا آخر بعنوان (تركت رأسي أعلى الشجرة) ثم بعد ربع قرن بتندوف بأقصى الصحراء انتقلت إلى معسكر بالشمال قرب وهران مديرا لمسرحها، حيث اشتغلت مع الشبيبة هناك لبعث حركة مسرحية، وخاصة في مشروع (حلم) للأطفال مع الفنان حسين مخطار صاحب المشروع والفكرة، ثم عدت إلى الجنوب إلى مدينة بشار لتأسيس مسرحها حيث أعمل الآن وجلبت معي مشروع (حلم) و أصدرت هنا كتابا شعريا آخر بعنوان (عزلات بلا ذاكرة)”.