16 نوفمبر، 2024 4:50 م
Search
Close this search box.

إطلالة نقدية على .. “قصة الأمس” !

إطلالة نقدية على .. “قصة الأمس” !

بقلم – السيد طه :

على ثلاثة محاور رئيسة؛ أخذتنا “ماجده جادو” في رائعتها (قصة الأمس). وكأنها بطلة مطلقة لعرض مسرحي تقوم فيه بثلاثة أدوار مختلفة.

تتوازى تلك المحاور أحيانًا حتى تكون كقضبان السكك الحديدية لا تلتقي على الإطلاق حتى يصل قطارها سليمًا معافى لمحطته الأخيرة. الشاهد أن عدم الإلتقاء هو عين النجاة؛ وسبيلها الوحيد. كما تتقاطع تلك المحاور أحيانًا أخرى لتكون أدلة جرائم وحيثيات حكم يعضد بعضها البعض ويؤيد كل منهم الآخر، وذلك من خلال توليفة تتسق في زمانها ومكانها وأشخاصها.. غزلتها (جادو) بمغزل الحاذق الماهر البصير بنعومة وسلاسة ويُسر ونسجتها على نول أخطر حقبة زمنية في تاريخ مصر المعاصر.

تلك الحقبة التي شكلت واقعنا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا وإيديولوجيًا على النحو الذي نراه ونحياه الآن؛ ولا ندري لأي طريق يتجه بنا من فرط ضبابيته وعشوائيته وعبثيته … !!

السيد طه

* المحور الأول..

يمثل الشق الروائي البديع الذي اعتمد الجمل القصيرة الرشيقة المتناغمة المتتابعة؛ متكئًا على ما تملكه الكاتبة من ثروة لغوية وخيال خصيب وقدرة على التحليل والوصف والتصوير في سردية ولا أروع؛ ذكرتني مقدمتها بالمقدمة الماركيزية لـ (خريف البطريرك)، من خلال، (فاطمة)، الشخصية المحورية في الرواية، والتي تمثل كفاح وعذاب وشقاء المرأة المصرية في أصدق صورها، وكانت بمثابة نواة الذرة التي انشطرت وتشظت وقذفت من أحشائها كل شخصيات الرواية التي تبدأ أحداثها والحرب العالمية الثانية تضع أوزارها؛ بمشهد “فاطمة” التي مات عنها زوجها تاركًا لها سبعة من الأبناء، خمس بنات وولدين، جميعهم في سن الطفولة.

خرجت “فاطمة” من أعماق الريف المصري، الذي يعاني الفقر والجهل والمرض، لا تلوي على شيء سوى الفرار والنجاة بنفسها وأبنائها من موت محقق يلاحقها ويطاردها من خلال قصف وتدمير نتيجة حرب لا تدري لها سببًا ولا تعرف عن أطرافها شيئًا، وفي ذات الوقت تدفع فاتورة حسابها؛ تشريد وتهجير وشتات، فخرجت مع الخارجين ونزحت مع النازحين تقذفها المقادير هي وكوم اللحم الذي يتشبث بأذيالهما لتجد نفسها وجهًا لوجه على مسرح أحداث الرواية… !!

ولأن “جادو”، (إسكندرانية)، حتى النخاع جعلت بوصلة أقدار “فاطمة” تُيمم وجهها تلقاء “الإسكندرية”، لنراها هي وأبنائها السبعة، “جليلة وأمينة ونعيمة وخديجة وعزيزة ومحمود وأحمد”، في كادر واحد، حيث المشهد الأول من (قصة الأمس)، (آه.. فاتني أن أذكر لكم أن “محمود” لن يكون في هذا الكادر، لأنه ضل الطريق خلال رحلته مع أمه وأخواته وسيظهر في حينه !).

* المحور الثاني..

هو محور الراوي العليم؛ الذي عاصر معظم تلك الأحداث ورآها عن كثب وتفاعل معها، فكان حتامًا عليه أن يدلي بدلوه فيها معبرًا عن شخصه وشخصيته وفكره وإيديولوجيته، والذي صاغته، (جادو)، بموضوعية ومنهجية وتجرد، لكونها واسعة الإطلاع وقارئة متميزة ومثقفة مستنيرة على درجة عالية من الفهم والوعي والتحليل والإدراك، ولذلك رأت أن تضع خلاصة آرائها وأفكارها الخاصة كشاهدة عيان على تلك الحقبة التاريخية الخطيرة المشحونة بالأحداث والممتلئة بالمتغيرات، ولنقرأ لها معًا بعضًا من تلك الرؤى والأفكار..

“ولماذا أعاد التاريخ نفسه مرات عديدة دون أن نعي لعبته؛ كأنما نحن مسيرون إلى هذا الإتجاه بل وندفع ناحيته كما لو أنه اختيار، لماذا نخرج دائمًا صِفر اليدين من تجارب حياتنا التي دفعنا فيها دم قلبنا ومشاعرنا وعمرنا.. !؟ ص 180”

وفي موضع آخر؛ تُعرف الحب تعريفًا نفعيا براغماتيًا نتيجة لما رأته من انتكاسات أخلاقية أصابت المجتمع..

“الحب هو أن تصعد على أكتاف من تحب وتستغله وتسحق مشاعره وآماله وطموحاته وتنتهز كل الفرص لتثبت له تفوقك في الحقارة !! ص 187” …

ثم تنتقل بنا في موضع آخر لتزيح الستار وتكشف اللثام عن وجهة نظرها في اليسار المصري السياسي..

“كانت طريقًا محفوفًا بالمخاطر؛ وكانت النفوس مليئة بالأمل والحب والتفاؤل. كانت مجموعة من الشباب الواعد تملؤهم الحماسة والإخلاص ولا يألون جهدًا في سبيل إنجاح مشروعهم وتحقيق حلمهم، لكنها كانت نفوسًا محلقة في الفضاء لم تنظر إلى موضع أقدامها فتعثرت وتبعثرت وانتشرت في فضاء اليأس والضياع، رغم الحماس ورغم الوفاء ورغم التضحيات صرنا إلى اللاشيء نلتقي لنلوك ونعيد مضغ ألسنتنا ومن انتقد مات أو أصيب بمرض عضال أو انتحر ولم يبقى إلا جامدي المشاعر عديمي التفكير، والذين يتحركون بالريموت كنترول حتى رحل من رحل وسافر من سافر واكتئب من اكتئب وتمول من تمول.. !! ص 144”.

ثم أختتمت رأيها؛ قائلة: “تدهورت الأحوال بشكل كبير، منذ تلك اللحظة، فلم يعد اليسار قادرًا على مواكبة غضبة الجماهير على الحكام، بعد أن تفشت بداخله الذاتية والأنانية والتشرذم ونظرية الحق الإلهي، فكل فريق نصب من نفسه صاحب الحقيقة المطلقة !! ص 148”.

ماجدة جادو

ناهيك عن كم المعلومات التاريخية عن أحياء “محافظة الإسكندرية” والمعلومات السياسية، لاسيما عن تكوين “اليسار المصري”، الذي كان من أعضاءه “يوسف إدريس وفؤاد حداد وصلاح جاهين وصنع الله إبراهيم وخالد محيي الدين ويوسف صديق وشهدي عطية”؛ علاوة على سرد الأحداث التاريخية من الحرب العالمية الثانية وتسليم بريطانيا، فلسطين، للكيان الصهيوني، وحرب 48، وعمالة “علي ماهر” و”حزب الوفد” لتواطئهم مع الإنكليز في حربهم ضد الألمان؛ وتمويل الإنكليز لـ”الإخوان المسلمين” ليتعاونوا معًا ضد الملك والشيوعيين، وتفجيرات السينمات والمسارح، والاغتيالات السياسية لـ”علي ماهر” و”النقراشي” و”الخازندار” و”أمين عثمان”؛ ردًا على اغتيال “حسن البنا”، وحريق القاهرة، وانقلاب (تموز) يوليو 52، وطرد الملك، ومذبحة الإنكليز للشرطة المصرية في “الإسماعيلية”، ومعاهدة 36، والعدوان الثلاثي على مصر، وتأميم القناة، وحل الأحزاب السياسية من قِبل “ناصر”، وانفراده بالحكم، وفتح السجون والمعتقلات للشيوعيين والإخوان وتعذيبهم وقتلهم، والسادات، وحرب (تشرين أول) أكتوبر، وعودة الإخوان ….

* المحور الثالث..

لم تكتفي، (جادو)، بما في جعبتها من معلومات وما في خزانتها من وثائق وما في عقلها من آراء واطروحات؛ فاستدعت شهودًا يؤيدون وجهة نظرها ووجدت ضالتها في الفريق، “عبدالمنعم خليل”، أحد قادة الجيش المصري، الذين شاركوا في هزيمة حزيران/يونيو 67، ليُقص علينا ما فعله بنا “ناصر” وزبانيته، وما فعلته معنا “السعودية” في هذه الهزيمة التي نتجرع مرارتها ومرارة تبعاتها حتى الآن، والتي بدأت بضياع “أم الرشراش” وإنتهت بضياع “تيران وصنافير”.

وكذلك استشهادها بـ”صنع الله إبراهيم”؛ وكتابه (يوميات الواحات)، ليحكي لنا السيرة الذاتية لـ”شهدي عطية”، أحد قادة الشيوعيين المصريين، وما فعله به “ناصر” ونظامه !!

وهكذا تأخذنا “ماجده جادو” وتتجول بنا عبر محاورها الثلاثة في أحداث متلاحقة سريعة ومتتالية لتجعلك تلهث وراءها ولا تتركك لحظة واحدة لإلتقاط أنفاسك حتى تفرغ من معيتها، وهي تُقص عليك (قصة الأمس) !

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة