خاص : كتب – محمد البسفي :
“العولمة”.. ذلك الأخطبوط الهلامي الواثق الذي بات يحوطنا بأذرعه الثقافية والاقتصادية وغيرها من عشرات الأذرع التي باتت تسيطر بنعومة وتتغلغل بإصرار قوي على كافة مناحي حياتنا اليومية، كأبناء دول العالم النامي أو دول الجنوب – بلغة الأمس –، وأصبحت “العولمة” هي الأيدي الوحيدة التي تشكل لنا مجتمعنا الوطني بمقوماته الحضارية والتأريخية حتى ذائقته الفنية وتذوقه للمأكل والمشرب.. ورغم مئات الدراسات والأبحاث التي كُتبت ومازالت تُدرس لفهم وفحص تأثيرات موج “العولمة” الكاسح لنا في دوماته وأعاصيره، أرتأت (كتابات) فتح ملف “مكافحة العولمة”.. وهو مجموعة من الحوارات مع مجموعة من المتخصصيين والمثقفين، يدور النقاش خلالها على محورين أساسيين؛ أولهما “هل نستطيع ؟”، أما الثاني فسوف يبحث في: “كيف نستطيع ؟”..
.. وكما رصد المفكر والكاتب المصري، “د. محمد دوير”، في الجزء الأول من حديثه مع (كتابات)، مواضع الربط المتلازمة بين العولمة الرأسمالية وسياسات النيوليبرالية وفلسفاتها الفكرية، “ما بعد حداثية”، محللاً ما يحرص “الإسلام السياسي” على لعبه من دور ممنهج إستراتيجي الأهداف والسيطرة داخل تلك المنظومة.. يستكمل “دوير”، في الجزء الثاني والأخير من الحوار، تحليل جدلية “منظومة العولمة” محاولاً كشف مواضع القوة والضعف داخل الشخصية الوطنية عمومًا؛ ومازال يملكه “العقل العربي” خصوصًا بعد مسلسلة خسائره وهزائمه..
ومع المحور الثاني : “كيف نستطيع ؟”.. نستكمل النقاش مع “د. محمد دوير” :
(كتابات) : هل تعتبر “صراع الحضارات”؛ وما تمخض عنه مما نحياه الآن من تضخم النعرات السلفية والتراجع الفكري لقيم ثيوقراطية أو شوفينية يمثل نتاج لتسارع حركة تلك العولمة الأخطبوطية ؟
- فيما أتصور أن مقولات “صراع الحضارات” و”نهاية التاريخ” وغيرهما؛ قد طواها النسيان في المجال الثقافي المعاصر الآن، ويجب ملاحظة أن تلك المقولات ظهرت في أعقاب إنهيار “الاتحاد السوفياتي”، ومحاولات المتخصصين الغربيين في البحث عن تصور جديد لعالم “ما بعد الاشتراكية”.. فذهب بعضهم إلى تأجيج الصراع الديني والمذهبي، والبعض الآخر تحدث عن مناطق الهيمنة الحضارية باعتبارها تخوم لمعارك، فيما تطرف “فوكوياما” أكثر واستدعى المقولة الهيغلية وتفسيرها عند “كوغيف”؛ وتحدث عن “نهاية التاريخ”، كاشفًا عما هو قديم/جديد، والإدعاء بأن الرأسمالية هي أفضل نظام يمكن أن يعيش في ظلاله البشر.
أما قضية تضخم النعرات السلفية؛ ففي تقديري أنها إشكالية ذات صلة بنا – كعرب ومسلمين – أكثر مما هي ذات صلة بالغرب نفسه – وإن كنت لا أبريء الغرب من استثمارها، وأعني تحديدًا أن غياب التنمية المستقلة؛ والمشروع الثقافي؛ والصراع الاجتماعي؛ والدور التقدمي لقوى التغيير؛ والنمط الريعي السائد في بلدان النفط؛ والسياحة والترفيه والاستيراد المفتوح.. إلخ، كل ذلك لعب دورًا في تفريغ “العقل العربي” من كل قيمة حقيقية يستطيع بها أن يواجه تحديات الواقع، وهو ما أدى إلى إيقاظ “النزعة الدينية” التي كانت قد أختفت قليلاً، في الفترة من 1920 – 1975، بفعل تأثير المشروع القومي على السياسة العربية. وكانت نكسة 67 حدًا فاصلاً؛ وضع “العقل العربي” في حالة أزمة ودهشة وعجز عن تلبية التغيير المطلوب في بنية السياسة العربية، التي كانت قائمة على دور الفرد، سواء كان زعيمًا أو رئيسًا أو شيخ قبيلة.
هنا كانت “السلفية” حاضرة ومستعدة لحصد ذلك الرماد المتبقي من “هزيمة العقل العربي” و”الجيوش العربية” و”الإنسان العربي”، بمعنى أن “الإسلام السياسي” عمومًا هو الملجأ الذي يقبع تحت الأرض ليحتمي منه كل من لا يريد أن يخوض الصراع الدولي والمحلي بروح منتصرة وقلب شجاع، كان “الإسلام السياسي” هو أدنى درجات الإستسلام وروح العالم العربي المهزومة. وكان من الصعب أن يصرح الإسلاميون بذلك، فتنوعت مواقفهم من الآخر؛ فرأوا الأميركان، “صليبيين”، والغرب عمومًا، “كافر”، وعدنا مرة أخرى إلى الوصف التاريخي، “دار الحرب ودار السلام”، وما يجب على المسلمين فعله للدفاع عن دينهم.
حتى القضية العربية المركزية نفسها – “القضية الفلسطينية” – إتخذت سمة دينية في الصراع؛ وسمعنا عن شعارات مثل: (فلسطين إسلامية، ولبيك يا أقصى)، بدلاً من (فلسطين عربية)، وحلت مصطلحات الإسلام السياسي كـ”الجهاد” محل مصطلحات القومية العربية كـ”الكفاح”.. وما إلى ذلك.
ودخل “الإسلام السياسي” في صراع مع أنظمة الحكم العربية وصُدرت مؤلفات كثيرة ومؤثرة تدعم ذلك الإتجاه، بدءًا من (معالم على الطريق)؛ لـ”سيد قطب”، وحتى “صالح سرية” و”محمد عبدالسلام” وآخرين.. ما أريد قوله في هذا الصدد؛ أن “السلفية الدينية”، في العالم العربي، كانت نتاج عجز “العقل العربي” عن مواجهة التحديات، ولكنها – أي “السلفية” بكافة فروعها – لم تنتج شيئًا ذا قيمة على الإطلاق، بل ربما كانت أكثر إندماجًا مع منطق “السوق الرأسمالي”، وأكثر تفاعلاً معه، وأكبر داعم لحركة التجارة العالمية، وليس غريبًا أن التجارة هي النشاط الذي يفضلونه عمومًا في أعمالهم الخاصة.
وبالتالي شكلت “السلفية” أحد روافد دعم “العولمة” وتشجيعها والتفاعل معها. وإن كنت أستبعد أن يكون لهم دورًا في التأثير الإيجابي فيها، فالشعوب العربية كلها لا تمثل أكثر من 4% من سكان العالم تقريبًا.
(كتابات) : وإن كان الأمر كذلك.. فهل يمثل هذا الصراع الحضاري أول مسمار في نعش “العولمة” ؟
- الصراع الحضاري – بالمعنى الديني أو بالمعنى المطروح هنا؛ لم يحقق وجودًا مؤثرًا بين النخب عالميًا ومحليًا، ولا أعتقد أن مقولة “الصراع الحضاري” لها الآن نفس الزخم الذي كان لها في تسعينيات القرن الماضي.
أما عن أول مسمار في نعش “العولمة”، ففي تقديري أنه أتى منذ 1992 – على ما أذكر – في “قمة الأرض” بالبرازيل، حيث تشكلت نواة مهمة لـ”عولمة بديلة”، وإنتباه شعوب العالم لمخاطر “العولمة الحالية”؛ ودورها السلبي في الحياة على الكوكب.
(كتابات) : تُرى هل غياب أي مشروع فكري تقدمي وطني حقيقي عن الساحة العربية، خاصة وساحة مجتمعات دول الأطراف عامة؛ الآن، هو الدافع الرئيس وراء لجوء العقول الجمعية إلى الأفكار السلفية وأستدعاء صراعاتها القديمة – أو حتى نكران السلف المتمثل في الإلحاد على الجانب الآخر ؟
- مؤكد.. فغياب “المشروع التقدمي” في العالم – وليس في منطقتنا فحسب – ترك فراغًا موحشًا وكارثيًا على سكان الكرة الأرضية، ومن المعلوم أن “الرأسمالية” تاريخيًا قدمت تنازلات كبرى في الرعاية الصحية وساعات العمل والرعاية الاجتماعية وحقوق العمال والمستهلكين؛ تحت تأثير ضغط القوى التقدمية في كل بلدان العالم، وفي المقابل لم تسع “الرأسمالية” إلى تحقيق مكاسب من كافة الإتجاهات بعد إنهيار “الكتلة الاشتراكية” واختفائها من الساحة الدولية.
وفي تقديري؛ أن العلاقة عكسية تمامًا بين نمو القوى الديمقراطية والتقدمية في العالم العربي والقوى السلفية والرجعية، خُذ على سبيل المثال التأثير المصري الذي تمدد في المرحلة الناصرية نتج عنه إنكماش الدور الخليجي تمامًا، والعكس صحيح الآن، لم يتمدد الدور الخليجي ولم تستشري المقولات السلفية سوى بغياب المشروع القومي عمومًا والتقدمي بصفة خاصة.
وبالتأكيد؛ سنجد أجندة الصراع تختلف في حالتي مد وجزر القوى التقدمية والقوى الرجعية، فالصراع المذهبي والديني وتقييم البشر وفقًا لدرجة إيمانهم، هو معيار الحكم في مرحلة الهيمنة السلفية، في مقابل فهم الصراع الدولي بوصفة صراع بين المركز والأطراف، بين الاستغلال والمساواة؛ في حالة هيمنة القوى التقدمية. ومن هذا المنطلق يمكننا فهم لماذا تزداد التبعية العربية للغرب على الصعيد الاقتصادي ؟.. ببساطة لأننا في مرحلة تحريف مفهوم “الصراع” وتحويله من “صراع اجتماعي” إلى “صراع ديني” وحضاري – وأخشى أن نختزل مفهوم “الحضاري” في البُعد الديني فقط -.
من جهة أخرى، كما أشرت في سؤالك، فإن “الإلحاد” هو وجه العملة المقابل لفكرة الإنسحاق في ضباب التفسيرات الدينية، وما أعارضه تمامًا في “إشكالية الإلحاد”؛ أنها حركة لا تحمل مضمونًا ثقافيًا ولا اجتماعيًا؛ لأنها غير منعكسة عن حركة تطور مجتمعي، إنها أقرب إلى صيحة “التمرد” منها إلى صيحات “الوعي”، وهي حركة تعيش على جدليات الفكر الغربي وفلسفاته، تلك الجدليات التي نشأت نشأة طبيعية بعدما إستفاق العقل الغربي من سبات العصور الوسطى، فجاءت عقب الإنتاج العلمي لـ”كوبرنيقوس” و”كبلر” و”غاليليو” و”نيوتن” وغيرهم، وعقب حركة إصلاح ديني ضخمة قادها “مارتن لوثر” و”كالفن” وغيرهما، وعقب تحول اجتماعي جذري من “الإقطاع” إلى “المركنتلية”.. وبالتالي فإنني لا أجد في حركة “الإلحاد” بين الشباب العربي الآن سوى مجرد رد فعل إنعكاسي للمغالاة في التشدد الديني.
إنها في تقديري – مع احترامي لحق الجميع في الإعتقاد – ليست سوى حركة شكلية لا تُعبر عن تطور المجتمع العربي ولإرتقاء “العقل العربي”.
(كتابات) : كيف يمكننا السيطرة أو تقليل سرعة هذه الخطوات المتسارعة للعولمة الثقافية ونقلل تأثيراتها على مجتمعاتنا ؟
- إن الاقتصاد المستند إلى فكرة “المركز المتقدم” في مواجهة “المحيط المتخلف”؛ تم نقلها إلى مجالات أخرى كثيرة وتخصصات متعددة، منها الثقافة والتربية وأساليب التعلم، وغيرت الكثير أيضًا من منطق الأشياء كفكرة “التملك” ذاتها، فلم يعد ضروريًا إمتلاك شيئًا عينيًا ماديًا، بل قد يصبح قيمًا افتراضية تحقق للإنسان اللذة والمتعة والاستقرار النفسي. ولم يعد “الزبون” هو ذلك الشخص الذي يحتاج إلى خدمات تختص بالمأكل أو الملبس أو المشرب أو الكساء أو السكن، بل ربما احتلت هذه المطالب مرتبة أقل درجة من مطالب أخرى طفت على السطح مؤخرًا بفعل الدور الكبير الذي لعبه الرأسمال الثقافي والتطور التكنولوجي.
ولذلك يمكن تفهم؛ لماذا ظلت تكنولوجيا الاتصال في يد الدولة، وخاصة في “الولايات المتحدة الأميركية”، وفي يد “البنتاغون”، على وجه الخصوص، طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ؟.. حتى بدأت الشركات الخاصة تدخل في هذا المجال الحيوي، أي بدأت تمتلك أدوات العصر وتعتبرها سلعة يحق لها استثمارها على الصعيد العالمي، وبروز اقتصاد جديد قائم على الإلكترونيات يديره أفراد في مجتمع لا يؤمن سوى بـ”الاقتصاد الحر”.
بمعنى آخر؛ صارت “الثقافة” إحدى ضحايا “النظام الرأسمالي”، في العقود الأخيرة. وتحولت “العولمة الثقافية” – وكما أسميها أنا “الإمبريالية الثقافية” – أداة من أدوات تمهيد العقل الجمعي لاستقبال منطق الاستهلاك الرأسمالي، هذا المنطق الذي يخضع لقواعد الشركات عابرة القوميات ورغباتها وشروطها، فأصبح تطبيق الديمقراطية الغربية إحدى خطوات إعادة الهيكلة وإحدى شروط المنح من المؤسسات المانحة كـ”صندوق النقد”.
وأصبح “التفكيك” هو لغة العصر وفلسفته وذروة المعنى الثقافي الآن في مراكز البحث والأكاديميات، حتى القواميس التعليمية والتعريفية ذاتها صارت تنطلق من المفهوم الفلسفي الغربي. وفي تقديري أننا في حاجة إلى جهود مضنية من أجل الإنفلات من تلك الهيمنة الثقافية الغربية التي تُصَدر لنا “ثقافة الاستهلاك” و”المنطق الزبوني” في “الثقافة”، وتلك الجهود سوف تبدأ من سؤال “الهوية”، ومن سؤال “الوجود” نفسه، وأيضًا من سؤال “ماذا نريد من المستقبل ؟” و”ما هي حدود وقدرات العقل العربي في تلك اللحظة التي تبدو أنها أحلك لحظاته التاريخية ؟”، لأنه عقل منقسم بين تبعية جغرافية للغرب وتبعية تاريخية للنص المسجون في غياهب التفسير الظاهراتي.
إن الشروط صعبة؛ ولكنها ليست مستحيلة. مع ضرورة التأكيد على أننا لسنا ضد “العولمة” كإتجاه جبري تحدث عنه “ماركس”، من قبل، بل وكثيرون من فلاسفة التاريخ، ولكننا نبحث عن “عولمة” تحترم حقوق الشعوب في التطور الاجتماعي، وتحِد من تطرف الاستغلال وتترك المجال متسعًا للتنوع الثقافي؛ ولا تنطلق من أي قيمة مضافة راهنة للفكر الغربي، مع تقديرنا التام لما قدمه للإنسانية من إنجازات فلسفة وعلمية في القرون السابقة.
(كتابات) : المكون الثقافي لأي مجتمع هو المردود الموازي لقيمه ونظامه الاقتصادي.. بمعنى أن المجتمع المرتكز على القيم الاستهلاكية اقتصاديًا يتوازي مع مرادف ثقافي استهلاكي.. فكيف لنا الخروج من هذه الدائرة ؟
- الإجابة ستكون هي نفسها إجابة السؤال السابق..
(كتابات) : لماذا إقترنت دائمًا “العولمة” بقيم الحرية الاجتماعية/السياسية والديمقراطية ؟.. وإن كان ذلك مجرد خداع – كما أرى – فما السبيل إلى هدم تلك الخزعبلات مجتمعيًا وسياسيًا ؟
- لي كتاب – تحت الطبع – يناقش تلك الفكرة بإستفاضة.. عن علاقة القيم السياسية والاجتماعية بالاقتصاد، وعمومًا هذه قضية مطروحة على الفكر العالمي منذ تحدث “جون لوك” عن الحرية؛ وحتى وصلت إلى عصرنا الراهن، حينما شدد “توماس فريدمان”، في أحد مؤلفاته الأخيرة، عن وهم الفصل بين النظرية الاقتصادية الرأسمالية والنظرية السياسية.
وكانت قد ظهرت أفكار كثيرة حول عملية الفصل هذه؛ فمثلاً يرى “برتزفورسكي” بأنه راجع دراسات عديدة حول علاقة الديمقراطية بالتنمية الاقتصادية ووجد أنها جميعًا لم تحسم تلك القضية حسمًا منهجيًا علميًا, فهناك دراسات تؤكد على أن الديمقراطية ضرورية للتنمية, ودراسات أخرى تشير إلى أنه لا علاقة إطلاقًا بين التنمية والاقتصاد, ودراسات ثالثة تذهب إلى أن النُظم الشمولية تحقق معدلات نمو أسرع, مما يعني أننا لسنا أمام نظرية ثابتة الصحة بأن الديمقراطية أحد شروط التنمية.
فيما يذهب أنصار “السوق الحر” إلى أهمية التعامل مع المواطنين بوصفهم أفرادًا, وليس التعامل مع المجتمع أو من خلاله, فأنصار “السوق الحر” لا يؤمنون بالفكرة التي تقول أن أسعار السلع وأنواعها يجب أن تمر للمواطنين من خلال المجتمع أو الدولة, فذلك قد يؤدي إلى خنق السوق وتقليل الفرص, إضافة إلى أنه يجرد “اقتصاد السوق” من أهم سماته؛ وهي اللعب على تنوع الذوق العام. أو قل فرصته هو أيضًا في خلق تنوع من الاختيارات لدى الناس, كوسيلة لتجديد السلع وتطويرها.
وهذه الخلخلة، التي لا ينجح “السوق الحر” بدونها، فهو في حاجة إلى خلخلة مسبقة، أي إلى فهم النظرية السياسية بوصفها التعبير الحر عن الآراء، ونزول التصورات والأفكار إلى السوق “الثقافي” لكي تتصارع فيما بينها دون الإقتراب قيد أنملة من جوهر النظام الحاكم؛ والذي يضع قواعد اللعبة وشروطها، فمن حقك أن تدعو لعبادة عدة آلهة أو الكفر بها جملةً وتفصيلا، ولكن من الصعب أن تجد وسيلة إعلام واحدة تسمح لك بالترويج بالثورة على “الرأسمالية” دون أن تلتف حولك قيود لا حصر لها أو أن تكشف أسرار “معبد كهنة الرأسمالية” في السيطرة على الشعوب، ويحكي لنا “جون بركنز”، في مقدمة كتابه (الاغتيال الاقتصادي للأمم)، عن المشكلات التي واجهها مع دور النشر لكي يرى الكتاب، الذي يدين المؤسسات الاقتصادية الكبرى ودورها في إغراق الشعوب في الديون، النور.
إن التجربة الغربية في السياسة العملية هي “نموذج تجريبي”؛ لا يجب أن يتحول إلى مثال يحتذى به، والذي يجب أن يعمله الجميع أن “أوروبا” كونت إمبراطورياتها في ظل نُظم حكم ملكية لا تعرف الكثير عن الديمقراطية أو الحريات بالصورة التي نشاهدها الآن، مما يعني أن الإرتباط بين “السوق الحر” و”الديمقراطية” أو النمط الحقوقي ليس إرتباطًا تاريخيًا، بل واستطيع أن أؤكد أن “الديمقراطية” نفسها هي نتاج “المجتمع العبودي الآثيني” وليس “المجتمع الرأسمالي”، وكما يمكن وصفها بأنها “ديمقراطية شكلية”، حيث اقتصرت في “اليونان” على، (الرجل، الحر، الإغريقي)، دون، (المرأة، العبد، الأجنبي)، يمكن أيضًا وصف الديمقراطية الغربية المعاصرة بأنها “ديمقراطية النخبة” أو “ديمقراطية إوليجاركية” – إن صح هذا التعبير.. إن النظام الرأسمالي أنتج في نهاية المطاف الآتي: الثروة في يد ما لا يزيد عن 1% من سكان العالم، والسياسة في يد ما لا يزيد، أيضًا، عن 1% من سكان العالم، مع الإحتفاظ بحق المستهلك في إسترجاع البضاعة وحق المواطن في إعادة التصويت لحزب آخر لا يختلف كثيرًا عن الحزب الحاكم.. وهو نفس المنطق تمامًا، وهذا ما يعني أن ما يسمى بـ”الليبرالية الغربية” تحتاج إلى دراسات نقدية من كل الذين يتضررون منها لكشف زيفها المتألق.
(كتابات) : ما هي مكونات الشخصية الوطنية الآن في خضم هذا البحر الهائج من “منظومة العولمة” ؟
- لا يمكن للعولمة أن تمحو خصوصيات الأمم، أو تنتصر على العمق الحضاري للشعوب، ربما تستطيع أن تتلاعب بالعقل الجمعي لمرحلة زمنية ما، وربما نخسر في سبيل ذلك عدة أجيال من الذين ينسحقون أمام إغرائها، ولكنها ستكشف عن زيفها وعن تفريغها للعقل الجمعي، وذلك حينما تتحول إلى كائن يتلهم تراث الإنسانية ويتنكر له وينكر آثره على بناء الحضارة..
وأعتقد أن مظاهر مكافحة “العولمة” بدأت تظهر بوضوح في كل بقاع العالم، فهناك رفضٍ عام لها، وإن لم يتعرف بعد طريقه للتنظيم والعمل المشترك، هناك رفض لها من علماء ومفكرين وأدباء ورجالات سياسة ومواطنين عاديين. ولن يستكمل هذا الرفض بناؤه بدون أن تعي النخب الوطنية أن لها دور في حماية شعوبها من تخريب العقل، الذي يتم بشكل ممنهج، من أنصار “السوق الحر” و”التفكيك” و”ما بعد الحداثة”، والدفاع عن تلك الشعوب لن يتم بدون تبني إيديولوجيا ذات طابع عالمي يقاوم تلك الرغبة المتوحشة في تدمير الطبيعة وتشويه التاريخ وتعطيل عقول البشر، ويقاوم أيضًا ذلك الإنزلاق السريع نحو “العدمية” والتراجع الحضاري وإمتصاص دماء الشعوب الفقيرة.
إن النخب الوطنية مطالبة بوضع برامج عمل للدفاع عن حق شعوبها في الحياة والمساواة والعدالة. ولذلك فالمواطن اليوم بقدر ما أصبح مواطنًا عالميًا على صعيد المعرفة وتداول المعلومات، على قدر ما يجب ألا يترك نفسه فريسة للأنواء والأعاصير التي تسعى “العولمة الرأسمالية” أن تنزع بها كل ما تبقى من أديم الأرض، وكما قال “غاندي”: “سأفتح نافذتي لكل الثقافات؛ بشرط ألا تقتلعني من جذوري”.