7 أبريل، 2024 3:26 ص
Search
Close this search box.

بلند الحيدري.. الشاعر المنسي الذي كانت له الريادة

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص: إعداد- سماح عادل

“بلند الحيدري” شاعر عراقي، ولد في بغداد في 26 أيلول سبتمبر 1926، كردي الأصل واسمه يعني شامخ في اللغة الكردية. والدته فاطمة بنت إبراهيم أفندي الحيدري الذي كان يشغل منصب شيخ العرب في إستانبول.

حياته..

والده كان ضابطا في الجيش العراقي، وهو من عائلة كبيرة أغلبها كان يقطن في شمال العراق ما بين أربيل وسلسلة جبال السليمانية، ومن هذه العائلة برز أيضا “جمال الحيدري” الزعيم الشيوعي المعروف والذي قتل في انقلاب الثامن من شباط فبراير عام 1963 مع أخيه “مهيب الحيدري”. و إلى جانب “بلند” الأخ الأكبر “صفاء الحيدري” وهو شاعر بدأ كتابة الشعر قبل بلند وله دواوين شعرية عديدة مطبوعة في العراق، و”صفاء” كان يتصف بنزعة وجودية متمردة، ذهبت به للقيام بنصب خيمة سوداء في بساتين بعقوبة لغرض السكنى فيها، وهناك في بعقوبة تعرّف على الشاعر الوجودي المشرد “حسين مردان” الذي بدوره عرّفه على “بلند”.

 

في بداية حياته تنقل “بلند الحيدري” بين المدن الكردية، السليمانية وأربيل وكركوك بحكم عمل والده كضابط في الجيش. في العام 1940 انفصل الوالدان. ولما توفيت والدته التي كان متعلقا بها كثيرا في العام 1942 انتقلت العائلة إلى بيت جدتهم والدة أبيه. لم ينسجم “بلند” في محيطه الجديد وقوانينها الصارمة فحاول الانتحار وترك دراسته قبل أن يكمل المتوسطة في ثانوية التفيض، وخرج من البيت مبتدء تشرده في سن المراهقة المبكر وهو في السادسة عشرة من عمره.

توفي والده في عام 1945 ولم يُسمح ل”بلند” أن يسير في جنازته. نام “بلند” تحت جسور بغداد لعدة ليال، وقام بأعمال مختلفة منها كتابة العرائض (العرضحالجي) أمام وزارة العدل حيث كان خاله “داوود الحيدري” وزيرا للعدل وذلك تحدي للعائلة. بالرغم من تشرده كان حريصا على تثقيف نفسه فكان يذهب إلى المكتبة العامة لسنين ليبقى فيها حتى ساعات متأخرة من الليل إذ كوّن صداقة مع حارس المكتبة الذي كان يسمح له بالبقاء بعد إقفال المكتبة. كانت ثقافته انتقائية، فدرس الأدب العربي والنقد والتراث وعلم النفس وكان معجب بفرويد وقرأ الفلسفة وتبنى الوجودية لفترة ثم الماركسية والديمقراطية، علاوة على قراءته للأدب العربي من خلال الترجمات.

الدور الطليعي..

في مقالة بعنوان (بلند الحيدري.. ريادة لم ينصفها النقاد) يقول “شوقي بزيع”: “يصعب على نقاد الشعر ودارسيه أن يتجاهلوا الدور الطليعي الذي لعبه الشاعر العراقي الراحل بلند الحيدري لا في تحديث الشكل الشعري فحسب، بل في مقاربة الأسئلة العميقة لعلاقة الإنسان بالوجود، كما بتخليص الشعر من رطانته التعبيرية وترهله الإنشائي. ومع ذلك فإن المرء ليتساءل عما إذا كان ذلك الستار من النسيان الذي يحيط باسم الحيدري وبدوره الريادي يعود لعدم قدرة تجربته على مجاراة الزمن وتحولاته، أم لدواعٍ أخرى خارجة عن نطاق الإبداع ومتصلة بعزوفه عن الإعلام وعدم اكتراثه بالنجومية، أو بانتمائه السياسي والقومي. فالشاعر الذي ينتمي إلى الجيل نفسه الذي تنتمي إليه نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، لا يُذكر من قبل النقاد بوصفه أحد الأضلاع الثلاثة للحداثة الشعرية، بل بوصفه رابع هؤلاء وتابعهم في أحسن الأحوال. وإذا كانت الناقدة الكويتية تهاني فجر قد عزت الظلم اللاحق بصاحب «أغاني المدينة الميتة» إلى قوميته الكردية فإن سياق الأمور لا يؤكد هذا التفسير، لأن ذلك الانتماء لم ينعكس سلباً على شعراء مماثلين مثل جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي، وصولاً إلى سليم بركات. لا بل يُحسب لهؤلاء، على العكس من ذلك، تضلعهم في العربية ووقوفهم على جماليتها بما يفوق الكثيرين من أقرانهم العرب. ولا بد قبل الدخول في تفاصيل تجربة بلند وركائزها الفنية والمعرفية، الإشارة إلى المفارقة القائمة بين المكانة الاجتماعية والسياسية الرفيعة لعائلته الكبرى المقيمة بين السليمانية وأربيل، وبين معاناته الصعبة الناجمة عن انفصال أبويه وهو لا يزال يافعاً في الرابعة عشرة من عمره. وقد أحدث رحيل أمه المبكر، ومن ثم رحيل أبيه بعدها بقليل، جرحاً عميقاً في نفسه كما في مضامين شعره وتجربته التي اتسمت بالمرارة والحزن الميتافيزيقي والتبرم من الحياة. ورغم أن ظروفه الحياتية القاسية قد أجبرته على ترك الدراسة قبل إنهاء المرحلة المتوسطة، فإن بلند لم يستسلم لأقداره تلك بل قرر أن يعوض عن ذلك النقص بتعميق قراءاته وإثراء ثقافته واطلاعه بكل ما يضع مشروعه الشعري على طريق التطور والتجدد. نزوعه الوجودي وشعوره العميق بالغربة والاستلاب كانا نتيجة طبيعية لوحدة نفسه وانثلام روحه ونزوعه الدرامي والمأساوي. ومع ذلك يحق لنا أن نسأل عما إذا كان لحرمان الشاعر الشاب من الدراسة والدخول إلى «جنة» دار المعلمين العليا، التي دخلها أقرانه مثل نازك والسياب والبياتي ولميعة عباس عمارة، دورٌ ما في الغبن اللاحق به وفي إبعاده عن دائرة الضوء. ويحق لنا أن نتساءل من جهة ثانية عما إذا كان بلند قد دفع غالياً ثمن تواضعه وتواريه وعدم اكتراثه بالنجومية، كما بتسويق صورته والترويج لها في وسائل الإعلام”.

ويضيف: “في مجموعتيه الشعريتين «خطوات في الغربة» و«رحلة الحروف الصفر» الصادرتين في ستينات القرن الفائت، يبدو بلند الحيدري أكثر تمكّناً من أدواته الفنية وأكثر اقتراباً من هواجس الحداثة وقضايا الإنسان المعاصر. وهو في هذه المرحلة يتأرجح بين رومانسيته السابقة وبين التعبيرية المتصلة بشروخ النفس وتصدعات الواقع المحيط به. وقد عكست قصائد تلك المرحلة مدى النضج الذي أصابه الشاعر بفعل انكبابه على القراءة واكتساب المعارف الفلسفية والفكرية والأدبية المتنوعة، كما بدا واضحاً تأثره بعلم النفس الفرويدي وبالفلسفة الوجودية عبر سارتر وكولن ولسن وغيرهما. وكغيره من الرواد يرى في الشعر طريقة لتغيير العالم والتصدي للقضايا الكبرى كالاستلاب والقهر وتجويف المعنى الإنساني وغربة الكائن بشقيها الجسدي والروحي. وهو ما نجد تمثلاته في قول الشاعر: «هذا أنا ملقى هناك حقيبتان وخطى تجوس على رصيفٍ لا يعود إلى مكان من ألف ميناءٍ أتيتْ ولألف ميناءٍ أُصار وبناظري ألف انتظار». على أن بلند سيعمد في مجموعته الأخرى اللاحقة إلى التعبير عن مفهوم التمزق الداخلي بواسطة اللغة نفسها حيث تتشظى المفردات وتسقط بعض حروفها، كما بواسطة تقطيع الإيقاع الوزني وتسريعه وفقاً لمقتضيات الحالة أو المعنى. ففي قصيدة «وحشة» يستفيد الشاعر من التقنيات المعاصرة ليعبر عن الحوار المقطوع بين الإنسان والإنسان أو بينه وبين ذاته «ويرنّ الصوت يرنّ يرن من أنت ؟ أنا أنت لقد أخطأت وأخطأت وأخطأت لا أنت أنا وأنا لا أعرف من نحن… هل نحن اثنان أم جيلٌ أم جيلان يتمدد بينهما الزمنُ لا أدرك ما تعني لكني سأظلّ أنازع في السماعة». على أن تصدي بلند الحيدري لشتى الموضوعات والأسئلة المعقدة لم ينعكس تعقيداً في لغته وأسلوبه اللذين نحيا باتجاه البساطة والوضوح وقرب التناول، كما أن إلمامه بالموسيقى الذي اكتسبه من علاقاته الوثيقة مع موسيقيين رواد من وزن منير بشير وسلمان شكر، انعكس بوضوح في اختياره للبحور والإيقاعات الرشيقة والخفيفة على الأذن، فيما أن اهتمامه بالمسرح أكسبه قدرة ملحوظة على كتابة القصيدة المركبة ذات الأصوات المتعددة، وعلى توظيف الحوار في خدمة التنامي الدرامي للنص. كما يبدو القلق والتوتر سمتين بارزتين من سمات ديوانه «أغاني الحارس المتعب». وليس الحارس المعني بالعنوان سوى الشاعر نفسه الذي يحاول من ألف عام أن يرد التلف والاهتراء عن روح الأمة وتاريخها المجهض”.

شاعر منسي..

وفي مقالة بعنوان (بلند الحيدري في مقهى الوقت الضائع «واق الواق») يقول “منصف الوهايبي”: “قرأت بلند منذ أواخر الستّينيات، وكنّا نتغنّى بقصائده في تروتسكي وغيفارا خاصّة. والتقيته مرّتين، أولاهما في المغرب والثانية قبيل رحيله بعامين في جرش في الأردن. كان محدّثا بارعا يمتلك مقدرة على التعبير وقوّة وصف وتمثيل، لا تخفيان؛ «يتدفّق» ويكاد لا يسكت، ولا حديث له إلاّ عن نفسه؛ ولكن دون أن ينتقّص من الآخرين أو ينال منهم ويُزري بهم، بل كان فيه لطف وناحية إنسانيّة ملحوظة. كان ذلك في عمّان عام 1994، وكان لا يَنِي يردّد على مسامعنا كيف حُكم عليه بالإعدام، وأنّه نجا بأعجوبة. وكان عبد الوهّاب البيّاتي يُسرّ لنا بأنّ ما يزعمه بلند «نفْج» (من نفَج أي افتخر بما ليس عنده) ولا سند له من الواقع؛ وإن كان قد اعترف في حوار له بأنّ بلند هو «الشاعر المبدع في أساليبه الجديدة التي حقّقها، وفي طريقته التي لا يقف فيها معه إلاّ شعراء قلائل من العراق». على أنّ ما يعنينا في هذه الفسحة، أنّ بلند يكاد يكون اليوم شاعرا منسيّا”..

وفاته..

وتوفي “بلند الحيدري” سنة 1996 في مستشفى بنيويورك.

قصيدة الهويات العشـر..

وخرجتُ الليلة

كانت في جيبي عشر هويات تسمح لي أن أخرج

هذي الليلة

اسمي بلند بن أكرم

وأنا لم أقتل أحداً …لم أسرق أحداً

وبجيبي عشر هويات تشهد لي

فلماذا لا أخرج هذي الليلة

………

كان البحر بلا شطآن

والظلمة كانت أكبر من عَيْنَيْ إنسان

أعمق من عَيْنَيْ إنسان

ورصيف الشارع كان

خلواً إلا من صوت حذائي

طق..طق..طق

أجمع ظلي في مصباح حيناً, وأوزعه حيناً

وضحكت لأني أدركت بأني أملك ظلي

وبأني أقدر أن أرميه ورائي

أن أغرقه في بركة ماء وحل

أن أسحقه تحت حذائي

أن أخنقه طيَّ ردائي

طق..طق..طق

والظل.. ورائي.. ورائي.. ورائي

ما أكبر ظلك إنساناً يملك عشر هويات

في زمن …في بلد لا يملك أي هوية

غنيت.. صفرت.. صرخت.. ضحكت.. ضحكت

ضحكت

وأحسست بأني أملك كل البحر وكل الليل

وكل الأرصفة السوداء

وأني أجبرها الآن على أن تصغي لي

أن تصبح رجعاً لندائي

أن تصبح جزءاً من صوت حذائي

طق..طق..طق

ومددت يدي.. ما زالت عشر هوياتي في جيبي

هذا اسمي.. هذا رسمي

هذا ختم مدير الشرطة في بلدي

هذا توقيع وزير العدل

وقد مد به زهر حزّ فمي

وأطاح بسن من أسناني

خدَّش بعضاً من عنواني

وخشيت عليّ.. فبلعت لساني

ومعي سبع هويات أخرى

أقسم لو مرَّ بها جبل, أحنى قامته, ولقال

هي الكبرى

عن شعري, عن أدبي, عن فني

ولأني

أحمل عشر هويات في جيبي

غنيت, صفرت ,صرخت, ضحكت, ضحكت

ضحكت..

ما أكبر ظلك إنساناً يحمل عشر هويات في

عتمة ليل

عشر هويات في زمن, في بلد لا يملك أي هوية

في اليوم الثاني

كان ببابي شرطيان

سألاني من أنت ؟

أنا بلند بن أكرم, وأنا من عائلة معروفه

أنا لم أقتل أحداً, لم أسرق أحدا

وبجيبي عشر هويات تشهد لي وبأني ……فلماذا ?

ضحكا مني.. من كل هوياتي العشر

ورأيت يدا تومض في عيني, تسقط ما بين

الخيبة والجبن.

_____

قصيدة اعترافات ليست متأخرة

لن أذهب.. لن أذهب

ما أتعس أن أقضي كل حياتي في عتمة مكتبْ

نفس الوجه المرميِّ على الطاولة السوداء

نفس الزمن المترهِّل في الظل

ونفس الأوراق الملساء

نفس الحرف المتسائل عن حرف

وعلى الحائط ما زال اسمك يا وطني

يا وجهي في الذل وفي الجبن

ما زال اسمك يوشك أن يفتح عينيه

يمد ذراعيه

يقول: تعال إليّ يالمائت باسمي

يتدلى الألفان الكوفيان

يتدلى الموت بحرفين من السقف, بحبلين من السقف

من المطلوب بحبليه.. من المطلوب?

أجبني يا بخل ذراعيه

فلقد أرهقني وجهي المرميِّ على الطاولة السوداء

وتعبت من التوقيع على كذبٍ سيذاع صباحَ مساء

وكرهت شعاراتي الجوفاء

ما أتعس أن أذهب

ما أتعس أن أقضي كل حياتي في عتمة مكتب

مصلوباً ما بين الألفين الكوفيين وبين الحرف

المتسائل عن حرف

………

وكأمس ذهبت

يفتح فرّاشي باب الغرفة

يحني قامته العطشى

وبذلة من علّمه الجوع على أن يحني قامته

ويذلّ تحيته حدَّ الهمس

سيقول: صباح الخير

صباح الخير.. اسم مغنية.. كلا.. اسم قصيدة.. كلا

اسم جريدة.. أعرفها, أعرف صاحبها, كان صديقي

أهداني في يوم ما ديوان المتنبي للبرقوقي

حدَّثَني عن فجر قد يأتي برّاقاً كالسيف

وقتّالاً كالسيف

حدثني عن معنى أبعد من شكل الحرف

وأرد: صباح الخير

القهوة آخذها في الشرفة

أغلقْ باب الغرفة

القهوة لا تنسى.. مُرة

وأنا أكرهها مُرة..

 

https://www.youtube.com/watch?v=yfKKvPQKvDo

 

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب