الاسلام حارب الفقر وتداعياته، وحث على العمل والكسب واستحصال لقمة الحلال، وجعل من يكدح في سبيل توفير لقمة العيش لأهله ولأطفاله كالمتشحط بدمه في سبيل الله تعالى، أما من ابتلي من المؤمنين بكبر أو مرض أو فاقة لعاهة أو غيرها فقد أمّن له الاسلام حياة كريمة باسقتطاع جزء من أموال الأغنياء واعطائها الى الفقراء بعناوين واجبة ومندوبة كالخمس والزكاة والكفارات ورد المظالم والصدقات وغيرها، ومع كل ذلك يبقى المؤمن الغني خير من المؤمن الضعيف، واليد العليا خير من اليد السفلى؛ لأن الله تعالى يريد للإنسان المؤمن الهيبة والكرامة التي تتحقق غالبا بالإحسان الى النفس والأهل والآخرين، ولا يريد له الذلة والمهانة المستكنة في ذل السؤال والاحتياج الى الغير التي من المفترض ان تقتصر على اصحاب البلوى والمرض والآهات.
ينقل ان المرجع الديني الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين ضد الاحتلال الانكليزي للعراق أنّ أحد المؤمنين جاءه يوماً وشكا عنده الفقر والعسر، وطلب منه أن يحوّل إليه قضاء صلاة أو صوم عن بعض الأموات، ولكن الشيخ الميرزا صادف أنه لم يكن آنذاك عنده من العبادات الاستيجارية شيء، فاعتذر وقال: لا يوجد عندي الآن، ولما كان الرجل السائل قد أضرّ به الفقر وضغط عليه لم يتمالك نفسه، فأخذ يسبّ الشيخ…!! وذلك أمام تلامذته.
وبعد بضعة أيام جاءوا للشيخ بمال عن صلاة وصيام قضاء عن ميت، وهنا بادر الشيخ الميرزا ووجّه أحد أفراد حاشيته ليذهب بالمال إلى ذلك الرجل الذي سبّه لاستئجاره في قضاء هذه الصلوات! هنا تعجّب هذا الشخص الذي هو من أصحاب الشيخ وحاشيته وقال: شيخنا… ألستم تشترطون العدالة فيمَن يُستأجر للقضاء عن الميّت؟ قال: بلى، فقال: ولكن هذا الرجل على فرض أنّه كان عادلاً ولكنّه فقد العدالة عندما سبّكم، وكلنا نعلم أنّ سبّ المؤمن حرام، وارتكاب الحرام مسقط للعدالة، ولا شكّ أنّه يصدق على الشيخ أنّه مؤمن، فضلاً عن أنّه مرجع تقليد ومضرب المثل في الورع والتقوى، فتبسّم الشيخ ثم قال: سبّ الفقراء للعلماء غير مسقط للعدالة! اذهب وأعطه المال؛ فإنّه لم يكن ملتفتاً حينما سبّ.
نعم… هكذا يكون عالم الدين الذي يحبه الناس ويلتفون حوله، أنه محتاج فأخرجه احتياجه عن طوره وربما يخرجه احتياجه عن دينه، وان الشيخ المرجع ذو الصدر الرحب اراد بإرساله المبلغ الى المسيء ان يحفظ دينه وكرامته، وهذا أهم مما بدر منه بدون سابق اصرار وانما الجأته الظروف الى ذلك، أين هذا التصرف من تصرف بعض السياسيين الذين يدعون بانهم سائرون على نهج وهدي العلماء الربانيين؟! كيف يتعاملون مع المناوئين لهم أو المنتقدين لأخطائهم واخفاقاتهم وفشلهم في تلبية احتياج الناس من العيش الكريم وتوفير وسائل الراحة لبلد غني مثل العراق، الروح المتعالية الواثقة بنفسها وربها هي التي تقابل السيئة بالإحسان وتخلع عن نفسها موجبات الكره والبغض والانتقام، أما النفس الشريرة هي التي تلجأ الى التهديد والسجن والاقصاء والغرامات المالية التي قد تصل الى المليارات أو ربما القتل والابادة لكل من ينتقد سوء ادارتها، وإن كان المنتقد محسنا وشريفا في قومه!.