23 ديسمبر، 2024 11:12 م

التقديس الوهمي للأماكن التي يجتمع فيها الناس يعد من الأفعال الزائفة التي ارتبطت بأسماء اعتبارية ليس لها أصل إلا في مخيلة من اصطلح عليها أو اعتقد بها وإن كان بعض الناس يسلم اضطراراً بتصديق هذا المعنى الذي ما أنزل الله تعالى به من سلطان. فإن قيل: ما هو الفعل الذي يمكن أن يقوم به الإنسان بعد أن استشرى هذا الأمر وأصبح حقيقة لا يمكن الخروج عن القوانين الموضوعة لها؟ أقول: على المرء أن يفرق بين التقديس المصطنع الذي أشرنا إليه وبين الاجتماع التكويني الذي ترجع أسبابه إلى التعارف المشار إليه في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات 13. وإذا ما حصل الاطمئنان بهذا النهج فمن الطبيعي أن يباعد الإنسان بين النظرة الأولى وبين المقررات التكوينية المرتضاة من قبل الله تعالى، وعند ذلك يعلم أن الأرض التي أنشأها الله سبحانه لعباده لا يمكن تقسيمها، وإن شئت فقل إنها وجدت لجميع المخلوقات وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (والأرض وضعها للأنام) الرحمن 10.

من ذلك يظهر أن التقسيمات التي وضعها الإنسان لهذه الأرض لا يمكن الاعتماد على بقائها إلى نهاية الأمر وإن أراد بعضهم تبديل المسميات إلى دار حرب ودار سلام، لأن الأخيرة من وضع الإنسان أيضاً ولا يمكن الركون إليها في جميع الأوقات، ومن هنا أخذت هذه التقسيمات تخضع في غالب الأحيان إلى سلطة الطغاة، وما نشاهده من ترك الناس لأماكنهم والانتقال إلى غيرها إلا أحد المصاديق التي تدل على أن الهجرة المقدسة هي أسمى من البقاء في تلك الأماكن أو بالأحرى هي هتك لشرعيتها التي قدست من قبل أتباع الباطل، ومن هنا تظهر نكتة أخرى في سؤال الملائكة للناس الذين يعتقدون أن الاستضعاف قد حال بينهم وبين اتباع دين الله تعالى، وذلك في قوله: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً) النساء 97.

من هنا نعلم أن الهجرة الجماعية قد تكون حلاً للناس الذين استضعفوا في الأرض، وهذا ما حدث لبني إسرائيل كما سيمر عليك. وبناءً على ما بينا نستطيع تقريب المعنى من وجه آخر وذلك عند الإشارة إلى أن الانتقال من عصر إلى آخر لا يمكن أن يكون سبباً للتغيير المفاجئ إلا إذا حصلت هناك حالات استثنائية ولذا نجد أن الناس الذين يكتب لهم التحرر من أيدي الطغاة واستعبادهم لا يجدون العلل التي تساعد على تبديل ما هم عليه في فترة قصيرة ولهذا كان لا بد من ظهور جيل آخر يعمل على تدارك الآلام والصدمات السابقة التي عاشها سلفه، وذلك لأجل إيجاد حياة أفضل من تلك التي قضاها أجداده تحت سياط الظلم والطغيان وهذه الحالات قد تكون مستطردة بين الأمم، وما نشاهده اليوم من مظاهر مشابهة لما نتكلم عنه يدل على تبيان المعنى بأتم وجه، وهذا ما جرى بالفعل لبني إسرائيل، باعتبار أن الفترة التي سبقت إخراجهم من سلطة فرعون كانت فترة قاسية بما في الكلمة من معنى وذلك بسبب الظلم الذي لحق بهم ومن هنا كان لزاماً أن يتيهوا في الأرض أربعين سنة، وهذه الفترة كفيلة بتبديل الصفات السيئة المترسبة من العهد القديم كما بينا.

من ذلك نفهم أن أسلافهم الذين عاصروا المراحل الأولى من التيه لم يحدث في صفاتهم أي نوع من التغيير وهذا ظاهر في عصيانهم لموسى وكيف تمردوا على الأوامر الملقاة على عاتقهم، ولهذا رفض القسم الأكبر منهم الدخول إلى الأرض المقدسة وذلك بسبب الخوف الذي لحق بهم من القوم الجبارين وقد بين سبحانه ما حدث بينهم وبين موسى بقوله: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين… قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون) المائدة 21- 22. وكان هذا أحد أسباب تخبطهم وتيههم في الأرض أربعين سنة دون أن يجدوا المخرج الذي يكفل لهم الخلاص من هذا السجن الكبير أو العقوبة التي جعلها الله تعالى أشبه بالتأديب الانتقالي المصاحب للرعاية الإلهية التي لا زالت ترفدهم بالأسباب المؤدية إلى بقائهم على قيد الحياة وهذا ما يفهم بالضرورة من تظليل الغمام عليهم وكذا إنزال المن والسلوى، وقد عد هذا التظليل نعمة من الله تعالى لما فيه من وقاية لهم من حر الشمس.

فإن قيل: كيف يعتبر تظليل الغمام نعمة من الله تعالى؟ أقول: يعتبر الغمام نعمة إذا علمنا أنه ليس من الأنواع المتعارف عليها والتي تزول بزوال المؤثر الطبيعي لها، أو يمكن القول إنه من نوع خاص هيأه الله تعالى لهم رحمة منه، إضافة إلى نوع الطعام الخاص الذي أنزله عليهم، ولهذا جمع الحق سبحانه هذه النعم في قوله: (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) البقرة 57.

فإن قيل: ما المقصود من المن والسلوى اللذين تفضل بهما الله تعالى عليهم؟ أقول: ذكر المفسرون أن للمن والسلوى كثير من المعاني التي تكاد تختلف في المصاديق وإن تشابهت في المفاهيم ومنها:

أولاً: المن: شبيه بالطل الذي يسقط على الأشجار ويكون له مذاق عذب ممزوج بشيء من الحموضة.

ثانياً: السلوى: هو طائر لا يزال يطلق عليه السماني.

ثالثاً: المن: نوع من أنواع العسل يمزج بالماء ثم يشرب.

رابعاً: السلوى: العسل بلغة كنانة.

خامساً: المن: هو جميع ما أنعم الله تعالى به على بني إسرائيل.

سادساً: السلوى: نوع من المواهب التي لها دور في تسليتهم وإذهاب الحزن عنهم.

وهذه الآراء وإن كان بعضها يحتمل الصواب إلا أن الرأي الأخير فيه مخالفة ظاهرة لصريح القرآن الكريم الذي أشار إلى الصنفين بقوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) من آية البحث. ويعضد هذا المعنى بقوله: (وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) الأعراف 160.

فإن قيل: إذا كان مصدر المن والسلوى من الأرض فما معنى الإنزال؟ أقول: يطلق الحق سبحانه مصطلح الإنزال على جميع المخلوقات سواء كان مصدرها الأرض أو السماء وذلك نظراً إلى ظهورها من الأصل الثابت، المشار إليه بقوله تعالى: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر 21. وهذه هي الكبرى التي تفرعت منها مجموعة من الآيات، كقوله تعالى: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) الزمر 6. وكذا قوله: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً) آل عمران 154. وقوله: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوءاتكم وريشا) الأعراف 26. وكذلك قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) الحديد 25. وهناك آيات كثيرة بهذا المعنى.

فإن قيل: آية سورة النساء التي بينت فيها النكتة الثانية يظهر من سياقها أن سؤال الملائكة للذين ظلموا أنفسهم كان عن حالتهم التي ابتعدوا بسببها عن الدين ولكن المطلوب لم يظهر في إجابتهم؟ أقول: كان جوابهم من وضع السبب موضع المسبب، وذلك تفادياً لتبيان الأعذار على وجهها الحقيقي الذي يسبب لهم الإحراج، وهذا نظير قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) فصلت 21.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن