18 ديسمبر، 2024 8:58 م

القاهرة تقدم الدبلوماسية لاحتواء رسائل الخرطوم الغاضبة

القاهرة تقدم الدبلوماسية لاحتواء رسائل الخرطوم الغاضبة

في غالبية المحطات التي أطلق فيها السودان نيرانه الصديقة كانت الدبلوماسية السلاح الذي مكّن مصر من إبطال مفعول الصواريخ التي تنهال عليها.

في كل مرة ينشب خلاف بين مصر والسودان تلجأ الأولى إلى الأدوات الدبلوماسية وتبتعد عن الخشونة السياسية، مع أن بعض الرسائل الرسمية القادمة من الخرطوم تنطوي على قدر من الاستفزاز دون سابق إنذار.

الغريب أنه عقب كل توتر قادم من السودان تلتزم مصر بضبط النفس إلى أقصى درجة ثم تقوم الخرطوم بالتراجع عن التطاول الذي حدث منها حيال القاهرة وتتحرّك الأدوات الدبلوماسية المتعددة لاحتواء الموقف سريعا.

بدت هذه السياسة معروفة لكثير من المراقبين ما أفقد بعض الرسائل الحادة والجادة المعنى السياسي الذي يريده أيّ مسؤول سوداني لأن هناك تقديرا يقول بعدم صمود الموقف أمام حزمة كبيرة من المصالح المشتركة بين البلدين.

أمس الأول (الجمعة) استيقظ المصريون على قيام الخرطوم بتنفيذ قرار اتخذته بشأن ضرورة حصولهم على تأشيرة قبل دخول الأراضي السودانية (من سن 18 – 45)، وارتفعت بورصة التكهنات والتخمينات والمقايضات ورأى البعض في هذه الخطوة تحديا جديدا من جانب الخرطوم للقاهرة، مع أن الأخيرة تفرض على مواطني الســودان تأشيرة مماثلة لدخول الأراضي المصرية.

التحرك السابق جاء عقب أيام قليلة من مشاركة السودان إثيوبيا الاحتفال بالذكرى السادسة للبدء في مشروع سد النهضة، وكان الرئيس عمر البشير حاضرا في المناسبة الصاخبة في أديس أبابا، في إشارة أحدثت صداها في القاهرة، وأدرجت ضمن باب التنغيص وهي التي لا تزال حائرة في إيجاد مخرج مناسب يجنبها التداعيات السلبية عندما يكتمل بناء سد النهضة، والمرجح أن يخصم من حصصها التاريخية من مياه نهر النيل (55.5 مليار متر مكعب).

في خضم هذه الأجواء أُعلن عن زيارة الشيخ تميم بن حمد أمير قطر لأديس أبابا الاثنين، الأمر الذي لا يتوقف عند حدوده الثنائية بين قطر وإثيوبيا، فقد أُقحم السودان في الزيارة بطريقة غير مباشرة وقيل إن الخرطوم سوف تكون ضمن تحالف يجمعها مع الدوحة وأديس أبابا يسعى إلى تضييق الخناق على مصر من الجنوب.

قبل أن يتورع البعض ويؤكد أن سحابة سوداء جديدة سوف تمرّ قريبا في سماء البلدين جاء خبر زيارة سامح شكري وزير الخارجية المصري للخرطوم لحضور اجتماعات اللجنة المشتركة في الخرطوم اليوم الأحد، وهو ما يبدو متسقا مع معدل الصعود والهبوط الذي أصبح يتحكم في محرار العلاقات بينهما.

ترمي زيارة شكري المخطط لها سلفا إلى وضع النقاط على الحروف بعد أن تزايدت ملامح التوتر، ولا تمر فترة طويلة حتى تبادر الخرطوم بتفجير قنبلة سياسية في وجه القاهرة، فتارة تنكأ جرح مثلث حلايب الحدودي المتنازع عليه، وأخرى تتهم مصر بإيواء ودعم عناصر من المعارضة السودانية، وثالثة تقول فيها إن أجهزة المخابرات المصرية تعبث بأمن النظام الحاكم في الخرطوم وتمد بعض القيادات الإقليمية المناوئة له بالأسلحة.

في غالبية المحطات التي أطلق فيها السودان نيرانه الصديقة كانت الدبلوماسية السلاح الذي مكّن مصر من إبطال مفعول الصواريخ التي تنهال عليها، ويعود الطرفان إلى جدول الأعمال العادي بانتظار تفجير مشكلة أخرى تعكر الصفو الظاهر على السطح.

يرى البعض من المراقبين أن اللجوء إلى التريث والحذر وضبط النفس بات منهجا مصريا يتجاوز فكرة حصره في السودان ويعبر عن عدم استعداد للتحرش بأيّ جهة خارج مصر، ومن يحلل طرق التعامل مع الدول المعادية أو حتى التي لديها ميول معادية (قطر وتركيا والسودان وماليزيا ودول غربية عدة..) يجد أن هذا المنهج لم يتغير في معظم المحكّات.

فسر المتابعون الإصرار على هذه الطريقة بأن القاهرة لا تملك رفاهية الدخول في عداوات جديدة وتدرك أن التخرصات التي تأتيها من الخرطوم أو غيرها لا تعبّر عن مواقف استراتيجية وقابلة للتغير وترتبط بمواقف سياسية وتهدف إلى إرسال إشارات لتحقيق مصلحة ما من قبل الدولة ذاتها أو توصيل رسالة لحلفاء تربطها بهم مصالح سياسية متنامية.

الاعتماد على هذه الفكرة يساهم كثيرا في فك جانب من ألغاز العلاقة الغامضة بين القاهرة والخرطوم ويبرر لماذا لم تصل إلى حد الصدام والانفجار، ومتوقع أن تظل محكومة وغير قابلة للانفلات طالما التزم كل طرف بالقواعد الضمنية التي لا تتجاوز حدود اللياقة المقبولة.

المعلومات التي حصلت عليها “العرب” من مصادر مصرية متعددة تؤكد عدم الثقة الكاملة في النظام السوداني وعلاقته بالتيار الإسلامي لم ينفرط عقدها حتى الآن، والخطوات السلبية التي يتخذها لا تعبر عن مكنون الموقف السياسي لكن الخرطوم تريد طمأنة من يعوّلون عليها من دوائر إقليمية ودولية، فتتجه نحو الإيحاء بأن النظام الحاكم انفصل عن الحركة الإسلامية ويملك ميولا علمانية تساعده على تخطي مجموعة من الصعوبات والتحديات.

وأكدت مصادر لـ”العرب” أن الاتجاه العام لدى الحكومة المصرية يؤيد عدم الانجرار وراء مماحكات السودان، وجرى التنبيه على بعض الدوائر (الإعلام تحديدا) الابتعاد عن توجيه انتقادات مُهينة للنظام السوداني حتى لا يكون ذلك مبررا لتوجيه اتهامات تؤثر على التوجهات الإيجابيــة التي تقــودها الدبلوماسية المصرية وتمنح بعض الجهات المتربصة فرصة لإعادة إنتاج بعض الأزمات التقليدية من نوعية حلايب وشلاتين.

الرسالة شبه الرسمية بدت نتائجها سريعة في طريقة تعامل الإعلام خلال اليومين الماضيين مع قرار فرض تأشيرة على المصريين وجاءت تغطيتها هادئة على غير العادة، ما جعل البعض من المتابعين يلتفتون إليها ويستشعرون أن شيئا ما يتم طبخه في الغرف المغلقة ولا تريد الحكومة المصرية تعكيره بمادة إعلامية من هنا أو اجتهاد من هناك، خاصة بعد أن تيقن الجميع أن ما تقوله غالبية وسائل الإعلام في البلدين يعكس حالة سياسية رسمية على أرض الواقع مهما حاول البعض نفيها.

النتيجة السابقة تتضح معالمها عند مراقبة مراحل التوتر والانسجام بين البلدين، ففي الأولى تتكالب وسائل الإعلام على التصعيد وفي الثانية تبدي ميولا متفائلة بمستقبل العلاقات بين البلدين.

في تقدير البعض من الخبراء فإن القاهرة سوف تستمر في تبني سياسة الصبر مع السودان لأنها لا تملك أدوات فاعلة في الوقت الراهن ولا ترغب في الانجرار إلى خندق صعب، وثمة تصورات من قبل بعض القوى لتوظيف السودان في معارك ضد مصر تحت بند الاستعداد لتقديم إغراءات سياسية واقتصادية وأمنية معينة.

الزيارات واللقاءات والاتصالات الدبلوماسية التي تحرص عليها مصر مع السودان يمكن أن تطفئ الكثير من عناصر الغضب وتمنع الوصول إلى نقطة اللاعودة التي ربما يضطر فيها النظام المصري إلى استخدام أدوات لا يفضل اللجوء إليها حاليا لأنه يقدم نفسه على أنه ضابط إيقاع للأزمات ويمكن أن يساعد في وقف الصراعات والتوترات في المنطقة وليس التحريض عليها.
نقلا عن العرب