إنّه ثقل اللحظة يجذبه إلى الأرض جماداً، يتوقف أمام سيلٍ من السيارات تتدفق كتدفّق أفكاره اللئيمة، يشعر أنه لا بدّ من تغييرٍ حتّى يتحرر.
يسأله الصوت الجهوري الخشن:
-عليك الاختيار؟
بوضوحه الأكاديمي:
-ما هو المطلوب؟
وكأنّها مسألة حسابية لا بدّ لها من إجابةٍ منطقية، يُقهقه الصوت وقد عرف أنّه لم يفهم قوانين اللعبة بعد، فالمنطق سيد المواقف أحياناً، وخادمها أحياناً أكثر.
يحاول المارد أن يساير جموده العلمي فيوضّح له على الرغم من أنه لم يعتد الإيضاح:
– جسدٌ أم روحٌ أم عقل؟ عليك الاختيار.
بتسرّعٍ وسذاجة:
-العقل طبعاً.
يأتيه الصوت الجهوري بحدّةٍ وملل:
-تستغني عن عقلك؟!!!
باندفاعٍ جنوني:
– بالطبع كلا… أختاره.
-إذن لتفهم قوانين اللعبة، لك اثنان ولي واحد.
فهم أن عليه أن يختار واحداً وسيتخلّى عنه إلى الأبد، فكّر ملياً، جسده النحيل الضئيل لم يخدمه يوماً، لم يكن ذلك الشاب الطويل الوسيم، ولا المحارب الضخم، لم يحتجه يوماً ولن يحتاجه أبداً، فأجاب بحكمته التي لا تنتمي لحكمة عصره:
-الجسد.
قهقه المارد بفرح.
في كهفٍ مظلمٍ كان يزحف على الأرض كعلقة التصقت في مكانها، عقله كان يعمل بحدّة محاولاً إيجاد مخرج, روحه ارتفعت إلى السماوات بدعاءٍ ذكي مبدع.. ولكن مع مرور الوقت بدأ يشعر بالدوار….
عيون صفراء تتلألأ في الظلام حوله، عقله لم يعد يعمل فجسده الضعيف يتلاشى تحت وطأة الجوع والبرد، أحسّ أنّه هالك لا محالة، ستحطمه تلك الوحوش.
وفكّر بجهد، ألا يستطيع أن يغيِّر اختياره؟
حتى المارد خشي عليه من الهلاك فبهلاكه تنتهي اللعبة، عاد صوته الجهوري ليسأله:
– جسدٌ أم روحٌ أم عقل؟
وبدون تفكير، وكأنّما قرر المارد عنه، اختار الاحتمال الثاني:
-الروح.
في عالمٍ غريب فيه كل ما يشتهيه إنسان كان يسير بجسد ثور ويملك بداهة وذكاء داهية.
استمتع بكل ما يريده الجسد، وخطّط لفتنٍ، قتل فأسرف، لم يكن هناك شيء يستطيع أن يوقفه ولكن……
عندما وصل به حدّ استهلاك جسده إلى النهاية، لم يعد يشعر بالمتعة، فجسده يحتاج إلى لمسةٍ حانية، وعيناه تتوقان لنظرة عينين أخريين تتلاقيان معهما بتفاهم….
فقرّر جبروت جسده أن يُنهي المسألة، وبهمجية عقله حضّر مراسم موته المهيبة… حريقٌ، رمادٌ، نهرٌ وقارب، صرحٌ عظيم، وجمهورٌ مجبرٌ أن يَرْقَبَ الحدث ويُصفّق…
وبينما كان يفكّر في أرشيف عقله عن البداية المثالية لموته، عاد الصوت ولكنّه لم يكن بجهوريته المعهودة فهو لا يخاف الأصوات العالية:
– جسدٌ أم روحٌ أم عقل؟
لم يكن من ضيرٍ عليه أن يجرّب التجربة الأخيرة:
-العقل.
جسده ملكه، روحه تحلّق بجسده إلى الفضاء، والجميع يعلم أنّه مجنون.
قطع الشارع مع سيل السيارات المتدفّق لم ترتطم به سيارة، كان يقفز وكأن حركاته تتناغم مع مسيرة الحياة، أو أنّ الحياة تناغمت مع حركاته، فالمعادلة اكتملت بما يتناسب مع من حوله.