15 نوفمبر، 2024 6:42 م
Search
Close this search box.

مع ابن سيرين في ومضاته ومروءاته

مع ابن سيرين في ومضاته ومروءاته

-1-
ثمة نكهة متميّزة لسيرة الرجال الذين كانوا يرشون العطر حيثما ساروا ، وفي كل محطّه يقفون عندها، ويبهرون الناس بأخلاقهم وعطائهم ومروءاتهم ومحبتهم للقيم والمثل الرفيعة …

ومن الجميل جداً ان ترى المكارم تمشي على قدمين بين الناس ، وتكون المحفِز لهم على ان يحاكوها في جانب من جوانبها المليئة بالصور التي تنعش النفوس وتهز أوتار القلوب …

ان هذه السمة الفريدة هي التي أدخلت هؤلاء الرجال الاستثنائيين التاريخ من أوسع بواباته …

ولا شك أنَّ محمد بن سيرين كان واحداً منهم .

-2-

قالوا :

” كانوا اذا ذكروا عند محمد رجلاً بسيئة ذَكَرَهُ محمد بأحسن ما يعلم “

اذا كانت العادة أن يّذكر الناس في أحاديثهم عن غيرهم السلبيات والمثالب، فانّ ابن سيرين يخالفهم في ما اعتادوا عليه وينتقل بهم الى الضفة الأخرى …

يذكر عن الآخرين مناقبهم وصفاتهم الايجابية، ويتورع عن ذكرهم بما يسيء اليهم .

واذا دلّ هذا على شيء فانما يدل على طيبة النفس ، وصفاء الضمير ، والحرص على عدم الاساءة لأحد من الناس، وهذه هي المواصفات الاجتماعية المطلوبة للتعايش السلمي .

وقالوا :

” كان محمد بن سيرين اذا مشى معه رجل قام وقال :

ألَك حاجة ؟

فإنْ كان له حاجة قضاها، فإنْ عاد يمشي معه قام فقال له :

ألكَ حاجة ؟ “

اننا هنا أمام قضية مركبة من شيئين :

الأول : المسارعة الى قضاء الحاجات وهي من أروع الصفات والأفعال، وتدل على انسانية عالية واهتمامات بليغة بشؤون الناس .

الثاني : تجنب المظاهر التي يستطيبُها الكثير من الساعين وراء الضوء…

انّ كِبرَ النفس يُغني عن اللجوء الى المظاهر البرّاقة والوسائل المصطنعة للتفخيم والتضخيم ..!!

-4-

استدعاه بعض الولاة (ابن هبيرة) وسأله :

” كيف تركتَ أهل مصرك ” ؟

قال :

” تركتُهم والظلمُ فيهم فاشٍ “

لم يداهن ولم يجامل الوالي لانه يعتبرها ” شهادة يُسأل عنها ، فكرِهَ أن يكتمها “

انه اصطف مع الحقّ وآثَرَ أنْ يذكر الحقيقة، انتصاراً للمظلومين، واقامةً للحجة على الظالمين …

وهذا مسلك مَنْ يُؤثر الآخرة على الدنيا لوفور عقله ودينه ، ولعمق انسانيته ومرواءته …

-5-

بعث اليه الوالي ( ابن هبيرة) ملبغاً من المال (3 آلاف) فأبى القبول .

سُئِلَ ” ما مَنَعَكَ أنْ تقبل من ابن هبيرة ” ؟

فقال :

” انما أعطاني على خيرٍ كان يظنه بي ،

ولئن كنتُ كما ظن بي فما ينبغي لي أَنْ أقبل ،

وإنْ لم أكن كما ظَنَّ فالبحريّ ان لايجوز لي أنْ أقبل “

انّ رفضه لهبات الحكّام فرارٌ من أنْ يُكتب في ديوان أنصارهم فتنسحبُ عليه بالتالي آثار أعمالهم …

وهذا منتهى الاحتراز عن الوقوع في المظالم والمآثم .

-6-

توفي ابن سيرين عام 110 هجرية وهو ابن نيّف وثمانين سنة .

ولكنّ أخباره لم تمت معه بين الناس الى يومهم هذا ،

وكما قال الشاعر :

وانما المرء حديثٌ بَعْدَهُ

فكن حديثا حسنا لمن روى

-7-

وما أحوجنا اليوم الى إذكاء النزعة الانسانية الاخلاقية في المجتمع، بعد ان نشأ فيه الغش والخداع والتزوير والكذب ، حتى أصبح الفساد ثقافة لا يختص بها المفسدون وحدهم .

-8-

ان الاخلاق عنوان الأمة ، وسرّ نجاحها وتقدمها …

وكما قال شوقي :

وانما الامم الأخلاق ما بقيت

فان همُ ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا

والفساد يعني انهيار الاخلاق

-9-

وهكذا يتجلّى وجوب العمل من أجل إزاحة ما تراكم من غبار، على “الصورة” العراقية، التي كانت تخلب الألباب، وتثير الاعجاب ، فيما نحن اليوم نشكو من اللهاث وراء السراب ..!!

[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات