-1-
ثمة نكهة متميّزة لسيرة الرجال الذين كانوا يرشون العطر حيثما ساروا ، وفي كل محطّه يقفون عندها، ويبهرون الناس بأخلاقهم وعطائهم ومروءاتهم ومحبتهم للقيم والمثل الرفيعة …
ومن الجميل جداً ان ترى المكارم تمشي على قدمين بين الناس ، وتكون المحفِز لهم على ان يحاكوها في جانب من جوانبها المليئة بالصور التي تنعش النفوس وتهز أوتار القلوب …
ان هذه السمة الفريدة هي التي أدخلت هؤلاء الرجال الاستثنائيين التاريخ من أوسع بواباته …
ولا شك أنَّ محمد بن سيرين كان واحداً منهم .
-2-
قالوا :
” كانوا اذا ذكروا عند محمد رجلاً بسيئة ذَكَرَهُ محمد بأحسن ما يعلم “
اذا كانت العادة أن يّذكر الناس في أحاديثهم عن غيرهم السلبيات والمثالب، فانّ ابن سيرين يخالفهم في ما اعتادوا عليه وينتقل بهم الى الضفة الأخرى …
يذكر عن الآخرين مناقبهم وصفاتهم الايجابية، ويتورع عن ذكرهم بما يسيء اليهم .
واذا دلّ هذا على شيء فانما يدل على طيبة النفس ، وصفاء الضمير ، والحرص على عدم الاساءة لأحد من الناس، وهذه هي المواصفات الاجتماعية المطلوبة للتعايش السلمي .
وقالوا :
” كان محمد بن سيرين اذا مشى معه رجل قام وقال :
ألَك حاجة ؟
فإنْ كان له حاجة قضاها، فإنْ عاد يمشي معه قام فقال له :
ألكَ حاجة ؟ “
اننا هنا أمام قضية مركبة من شيئين :
الأول : المسارعة الى قضاء الحاجات وهي من أروع الصفات والأفعال، وتدل على انسانية عالية واهتمامات بليغة بشؤون الناس .
الثاني : تجنب المظاهر التي يستطيبُها الكثير من الساعين وراء الضوء…
انّ كِبرَ النفس يُغني عن اللجوء الى المظاهر البرّاقة والوسائل المصطنعة للتفخيم والتضخيم ..!!
-4-
استدعاه بعض الولاة (ابن هبيرة) وسأله :
” كيف تركتَ أهل مصرك ” ؟
قال :
” تركتُهم والظلمُ فيهم فاشٍ “
لم يداهن ولم يجامل الوالي لانه يعتبرها ” شهادة يُسأل عنها ، فكرِهَ أن يكتمها “
انه اصطف مع الحقّ وآثَرَ أنْ يذكر الحقيقة، انتصاراً للمظلومين، واقامةً للحجة على الظالمين …
وهذا مسلك مَنْ يُؤثر الآخرة على الدنيا لوفور عقله ودينه ، ولعمق انسانيته ومرواءته …
-5-
بعث اليه الوالي ( ابن هبيرة) ملبغاً من المال (3 آلاف) فأبى القبول .
سُئِلَ ” ما مَنَعَكَ أنْ تقبل من ابن هبيرة ” ؟
فقال :
” انما أعطاني على خيرٍ كان يظنه بي ،
ولئن كنتُ كما ظن بي فما ينبغي لي أَنْ أقبل ،
وإنْ لم أكن كما ظَنَّ فالبحريّ ان لايجوز لي أنْ أقبل “
انّ رفضه لهبات الحكّام فرارٌ من أنْ يُكتب في ديوان أنصارهم فتنسحبُ عليه بالتالي آثار أعمالهم …
وهذا منتهى الاحتراز عن الوقوع في المظالم والمآثم .
-6-
توفي ابن سيرين عام 110 هجرية وهو ابن نيّف وثمانين سنة .
ولكنّ أخباره لم تمت معه بين الناس الى يومهم هذا ،
وكما قال الشاعر :
وانما المرء حديثٌ بَعْدَهُ
فكن حديثا حسنا لمن روى
-7-
وما أحوجنا اليوم الى إذكاء النزعة الانسانية الاخلاقية في المجتمع، بعد ان نشأ فيه الغش والخداع والتزوير والكذب ، حتى أصبح الفساد ثقافة لا يختص بها المفسدون وحدهم .
-8-
ان الاخلاق عنوان الأمة ، وسرّ نجاحها وتقدمها …
وكما قال شوقي :
وانما الامم الأخلاق ما بقيت
فان همُ ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا
والفساد يعني انهيار الاخلاق
-9-
وهكذا يتجلّى وجوب العمل من أجل إزاحة ما تراكم من غبار، على “الصورة” العراقية، التي كانت تخلب الألباب، وتثير الاعجاب ، فيما نحن اليوم نشكو من اللهاث وراء السراب ..!!