كتبت – سماح عادل :
الماضي دوماً له طعم البهجة.. حين نبحث فيه نكتشف كنوزاً لم يحالفنا الحظ في معايشتها.. شخصيات كثيرة صنعت تاريخنا قد لا نعرف عنها شيئاً، لذا كانت العودة إلى الماضي وسيلتنا لمعرفة حاضرنا وجذوره.
مونولوجست
“عفيفة اسكندر” مطربة عراقية ولدت عام 1922 في الموصل كان أبوها عراقياً مسيحياً وأمها يونانية، وهناك قول آخر أنها ولدت لأبوين سوريين، بدأت الغناء وهي في سن خمس سنوات وأول حفلة غنت فيها خلال عام 1935، منحها المجمع العربي الموسيقي لقب “مونولوجست” لأنها كانت تجيد الغناء والمقامات العراقية.
ورثت موهبتها عن والدتها “ماريكا دمتري”، التي كانت تعمل مغنية في ملهى “ماجستيك”، في منطقة الميدان بباب المعظم وكانت تعزف على أربع آلات موسيقية، تزوجت وهي في سن الـ12 من “إسكندر اصطفيان” عراقي أرمني كان يعمل عازفاً، ووقت زواجه منها كان في عمر 50 عاماً أخذت منه لقب إسكندر.
أول أغنية غنتها في أربيل كانت بعنوان “زنوبة” وهي بعمر 8 سنوات، وبدأت عام 1935 بالغناء في نوادي وملاهي بغداد، حيث غنت في أرقى الملاهي في ذلك الوقت مثل ملهى “براديز” و”كباريه عبد الله” و”الهلال” و”الجواهري”، وأصبحت سريعاً نجمة من نجوم الغناء العراقي، وقد اهتم بها حينها شخصيات هامة وذات مكانة اجتماعية، كانت تغني المونولوج باللغة الإنكليزية والفرنسية والتركية والألمانية، وعملت مع الفنانة “منيرة الهوزوز” والفنانة “فخرية مشتت”، وكانوا يسمونها “جابركلي” أي “مسدس سريع الطلقات” بسبب أنها كانت تغني غناء سريعاً نتيجة لصغر سنها وعدم نضوج صوتها في ذلك الوقت، دخلت الإذاعة العراقية عام 1937.
نقطة الإنطلاق.. مصر
شكلت مصر مرحلة انطلاق لموهبتها.. ففي عام 1938 سافرت إلى مصر وعملت مع فرقة “بديعة مصابني” في مصر فترة طويلة، وعملت أيضاً مع فرقة “تحية كاريوكا”، وشاركت في التمثيل في فيلم “يوم سعيد” مع الفنان الكبير محمد عبد الوهاب وفاتن حمامة، وغنت فيه ولم تظهر الأغنية عند عرض الفيلم بسبب أن المخرج حذفها بسبب طول الفيلم الذي تجاوزت مدة عرضه الساعتين، كما مثلت في أفلام آخرى منها “القاهرة ـ بغداد” إخراج أحمد بدرخان ومثل فيه حقي الشبلي وإبراهيم جلال وفخري الزبيدي ومديحة يسري وبشارة واكيم، وكذلك فيلم “ليلى في العراق” إنتاج ستوديو بغداد وإخراج أحمد كامل مرسي ومثل فيه الفنانون جعفر السعدي والراحل محمد سلمان والفنانة نورهان وعبد الله العزاوي وعرض الفيلم في سينما روكسي عام 1949، كما تعرفت إلى الأديب “المازني” والشاعر “إبراهيم ناجي” في مصر وتأثرت بهم، ومن هنا بدأ اهتمامها بالثقافة والأدب، ثم عادت إلى العراق واستقرت في بغداد واشتهرت بحفظ مئات الأبيات الشعرية.
كانت عفيفة اسكندر هي المغنية الأولى خلال العصر الملكي في العراق، وكان كبار المسؤولين في الدولة من ملوك وقادة ورؤساء ووزراء يهتمون بها، ويحضرون حفلاتها، “نوري السعيد” رئيس الوزراء السابق وكان يحضر كل يوم اثنين إلى حفلات المقام، ويحضر حفلاتها لأنه يحب المقام والجالغي البغدادي، و”الملك فيصل” الأول كان من المعجبين بصوتها، و”عبد الكريم قاسم” أيضاً كان يحب غناءها ويقدرها، أما “عبد السلام عارف” فقد كان يحاربها ويضيق عليها حسب ما قالت في أحد تصريحاتها، حيث قالت أنه كان يتهمها بدفن الشيوعيين في حديقة بيتها، وهي أول مطربة بغدادية تغني القصيدة عند تأسيس التليفزيون العراقي عام 1956، وأول من غنى في الإذاعة عام تأسيسها 1936، وأول أغنية لمطربة حين ظهرت الألوان في التليفزيون العراقي عام 1976.
صالون “عفيفة اسكندر” الأدبي
لم تكن عفيفة اسكندر مطربة وفقط.. بل كانت مهتمة بالأدب والثقافة، نظمت صالوناً في منزلها في منطقة المسبح في الكرادة وكان صالوناً فاخراً، يواظب على حضوره أهم رجال الأدب والفن والسياسة والثقافة في العراق، ومنهم “نوري سعيد” رئيس الوزراء العراقي السابق و”فائق السامرائي” عضو حزب الاستقلال وعضو مجلس الأمة، والنائب “حطاب الخضيري”، و”أكرم أحمد” و”حسين مردان” و”جعفر الخليلي” و”إبراهيم علي” والمحامي “عباس البغدادي” والعلامة الدكتور “مصطفى جواد” الذي كان مستشارها اللغوي وتستشيره في الشعر قبل أن تغنيه بالإضافة إلى الفنانين: “حقي الشبلي وعبد الله العزاوي ومحمود شوكة وصادق الأزدي” والمصور “آمري سليم” والمصور الراحل “حازم باك” وكثيرون.
بلغ رصيدها من الأغاني أكثر من “1500” أغنية، ومن أهم الأغاني التي غنتها هي: “يا عاقد الحاجبين” و”مسافرين” و”أريد الله يبين حوبتي بيهم” و”قلب.. قلب” و”نم وسادك صدري” و”يايمة انطيلي الدربين انظر حبي واشوفه” و”يا سكري يا عسلي” و”قسما” وأغنية “حركت الروح” و”غبت عني فما الخبر” و”جاني الحلو.. لابس حلو صبحية العيد” وغيرها.
قال عنها المؤرخ “سيار الجميل” على موقعه الإلكتروني الخاص: “رأيتها مرة في طفولتي ببغداد في إحدى بيوتات قريباتي وهي تقرأ شعراً في حفل خاص بحديقة غنّاء.. وكانت رائعة الأداء وتدرك معنى مخارج الحروف، وهي تدرك عناصر الجذب من قبل الفنان للآخرين وكيف ترسم الابتسامة على الوجه وكيف تحّرك ملامحها من اتجاه لآخر”.
ووصف غنائها بأنه: “اتسم باللون البغدادي.. الذي اختفى في الوقت الحالي.. وكان يعد غنائها نقلة نوعية في طبيعة الأغنية العراقية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، حيث نقلت الغناء السائد في الموصل ومناطق الشمال إلى بغداد، تلك المواويل التي تنحدر أطوارها من جغرافية الموصل الشمالية.. لقد تضمنت أغانيها الأولى نكهة الشارع البغدادي، بعباراته الشائعة وبلاغته الخاصة وبنحته للجملة من لهجة موصلية صعبة بإحالاتها وإمالاتها لا يمكن أن تتداخل معها أبداً لهجات المناطق الأخرى؛ بيد أن أجواء بغداد المخملية في عقدي الأربعينيات والخمسينيات قد استوعبتها وحملت مزاجاً متمدناً لا يكاد يفصل بين ما تفرزه الحياة، وما يستعيره الفن من تلك الإفرازات، فيتدثر بإيحاءاتها الثرية، ما أمكن له أن يتدثر دون أن يفقد تلك الصلة”.
رمزاً لعصر
كانت عفيفة رمزاً لعصر اتسم بالنهوض أدبياً وثقافياً وفنياً في العراق، كما في باقي الدول العربية، يقول “سيار الجميل”: “فالمجتمع المدني العراقي بدأت ملامحه تتشكل للتو، وجاء ظهور التجمعات الثقافية: جماعة بغداد للفن التشكيلي، والفرق المسرحية الأهلية كفرقة الزبانية، مترافقاً مع ثورة الشعر الحديث، وحركة الرواد، ومع التجديد في القصة.. وعصرنة الحياة التي يبدو من الصعب تكرارها ثانية في نسيج شرائح المجتمع العراقي ونخبه، حيث لم تكن المسافة واضحة بين الملهى والمقهى، والصالة والصالون، فكلها كانت منتدى للحوار والحياة معاً”.
بالإضافة إلى تميزها في الفن.. كان لعفيفة اسكندر موقف سياسي فقد امتنعت عن الغناء للثورة، ورغم أنها ظلت بالعراق طوال حياتها إلا أنها لم تغن للحرب، أو للحاكم، أو تتملق السلطة السياسية، وحافظت على عزلة اجتماعية، يشيد “سيار الجميل” بموقفها قائلاً: “أنها اعتزلت عن الفن اعتزالاً تاماً، واحتجبت معتكفة في بيتها بعد وصول البعثيين إلى السلطة، فهي وان لم تكن الوحيدة التي لم تمدح البعث والبكر وصدام كما فعل الآخرون، ولكنها استطاعت أن تخفي معارضتها السياسية من خلال صمتها الطويل على مدى أكثر من 35 سنة، لقد بقيت عفيفة ملتصقة بتراب العراق ولم تغادره وبقيت صامتة ولم تظهر للعلن إلا مؤخراً عند تكريم الرواد لمناسبة مرور 68 سنة على تأسيس الإذاعة العراقية، ظهرت لتقول: ها أنا ذا أعلن عن وجودي بعد صمت قاس تحّول خلاله فن الغناء العراقي إلى سيرك فيه كل الألوان المبهرجة والبلادة والمجانية والسماجة وخليط من البلايا المضحكة”.
كانت عفيفة الجسر بين أهم جيلين من مغنيات بغداد في القرن العشرين: جيل مثّله “سليمة مراد” ومنيرة الهوزوز وزكية جورج وصديقة الملاية”، وجيل مثّله “مائدة نزهت وزهور حسين ووحيدة خليل ولميعة توفيق”، انتهى الجيل الأول بالرحيل، بينما غيب الموت والصمت الجيل التالي.
عانت في سنواتها الأخيرة من المرض والعزلة والإهمال، وطلبت قبل وفاتها أن تدفن بالقرب من والدتها بمقبرة الأرمن وسط العاصمة بغداد، وماتت في مستشفى ببغداد في تشرين أول/أكتوبر 2012.
من أغانيها :
أغنية قديمة لها هلك منعوك
https://www.youtube.com/watch?v=a5OI_6z_6TI
أغنية حركت الروح
https://www.youtube.com/watch?v=3hQsSK0RHh8
أغنية جوز منهم
https://www.youtube.com/watch?v=wR-iLkPiViw
لقاء مع الفنانة عفيفة اسكندر