تشكل الحكومات الدكتاتورية والقمعية والطائفية السياسية والاثنية المحصصاتية والمتخلفة عموما عوامل طرد لمواطنيها وليست استقطاب لهم, نتيجة لانعدام مقومات الحياة المستقرة, من خدمات مختلفة ومستويات عيش وفرص عمل, كما تشكل الحروب الداخلية والصراعات الاقليمية أحد مصادر الهجرة الاساسية للبحث عن الامن والامان والحفاظ على الارواح !!!.
كان نموذج العراق في زمن النظام السابق احد النماذج الصارخة في المنطقة في طرد المواطن الى الخارج, سواء من خلال التهجير القسري أو الهجرة الاضطرارية, وقد تمركزت في فترات زمنية مختلفة, استنادا الى اسبابها, حيث سادت نهاية السبعينات في القرن الماضي موجات من الهجرة ذات الطابع السياسي, وحيث البحث عن الامن بعيدا عن التنكيل والاعتقال والبطش والتعذيب الجسدي الذي أطال المعارضة العراقية انذاك. ثم تلتها هجرة الثمانينات والتسعينات هروبا من حروب النظام الدكتاتوري وجبهات قتاله التي فتحها مع أيران والخليج, والتي ذهب ضحيتها خيرة أبناء شعبنا وكادره المهني والعلمي والاداري, ودمرت فيها البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية وعسكرة الحياة بكاملها. وكانت هذه الهجرة الاخيرة قائمة على عوامل الهروب من الموت وتدني مستويات العيش والفقر والفاقة, والتي وصلت الى حدود مريعة, وشملت معظم الشرائح الاجتماعية والطبقية, بل وشمل أنصار غفيرة من النظام والمحسوبين على حاشيته ومن مختلف المستويات المهنية والتعليمية, والذين تركوا العراق بحثا عن لقمة العيش والامان, في ظروف وصل فيها راتب الاستاذ الجامعي في احسن الاحوال عشرة دولارات, ويقدر عدد المهاجرين انذاك بأكثر من خمسة ملايين !!!!.
وإذا كانت الهجرة على المستوى الفردي تفتح منافذ الرحمة أمام الفرد للخلاص من الضغوطات والصراعات السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية, والخلاص من الاضطهاد بمختلف مظاهره, أو الرغبة في تحصيل العلم, فأن عدم عودة قوافل المهاجرين وإبقائهم بعيدا عن موطنهم الأم يشكل نزيفا مستمرا وتهديدا لأي عمليات إعادة بناء للبنية السياسية والاقتصادية والثقافية للبلدان المصدرة للهجرة. ولعل الإحصائيات على صعيد البلاد العربية ترينا حجم الكارثة المحدقة في الحرمان من القوى المهاجرة, فقد بلغ عدد المهاجرين العرب في الخارج أكثر من 35 مليون يمثلون أكثر من 12% من سكان الوطن العربي, والمهم في ذلك هو نوعية العقول المهاجرة من مختلف التخصصات, والتي من بينها تخصصات إستراتيجية مثل الجراحات الدقيقة, الطب النووي والعلاج بالإشعاع والهندسة الالكترونية والميكرو ـ الكترونية, والهندسة النووية, علوم الليزر, تكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية واقتصاديات السوق والعلاقات الدولية, طبعا إلى التخصصات المهمة الأخرى في نطاق العلوم الإنسانية والأدبية, فهناك
علماء وكفاءات متميزة ومن ذوي السمعة العالمية المرموقة. وقد تسببت هجرة العقول العربية بخسائر مالية تجاوزت 200 مليار دور !!!!!.
ومادامت عوامل الهجرة وأسبابها قائمة فأن نزيفها لم يقف بل تفاقم في العقود الأخيرة على خلفية مجمل الأوضاع في البلاد العربية, وفي مقدمتها: القمع والإرهاب الديني والسياسي وحملات الاعتقال والتطهير للمعارضين السياسيين, التهجير العرقي والاثني والطائفي, انعدام الحريات السياسية والتعددية الحزبية وما يرتبط بها من نظم دكتاتورية بواجهات مختلف لا تسمح بالاختلاف في وجهات النظر, سيادة أجواء الإحباط وعدم الاستقرار السياسي والخوف من المستقبل, عدم توفر المناخ العلمي في مواقع العمل وانعدام الحريات الأكاديمية وضعف البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات البحثية, التخلف العام في البلاد العربية وضعف الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية, فشل التنمية الاقتصادية والاجتماعية لعقود خلت بدون عوائد كبيرة على حياة الفرد والمجتمع, الانتماء إلى الأقليات القومية والدينية وعدم الإحساس بالأمن والأمان, استفحال البيروقراطية الإدارية والروتين في كل مفاصل المجتمع, بما فيه الجامعات ومؤسسات البحث العلمي والتطوير الاجتماعي, وأيضا أسباب أخرى ذات علاقة بالطموح الشخصي وتحسين ظروف العيش الفردي وحرية ممارسة المهنة !!!.
وإذا كانت هجرة الكفاءات العلمية والاقتصادية والمهنية تسبب الكثير من الخسائر المادية, متمثلة برأس المال واستنزاف الطاقات البشرية المدربة والمؤهلة والمنتجة وذهابها بعيدا عن موطنها الأم, وتدني الدخل القومي نتيجة لانخفاض مستوى الإنتاج, وعرقلة انجاز الخطط التنموية, وتغيرات في التركيبة السكانية من حيث النوع والعمر, والخسائر الاجتماعية والخدمية والثقافية والحضارية, فأن الهجرة القسرية للأحرار والديمقراطيين واللبراليين من سياسيين ومفكرين ومثقفين ومبدعين هي الأكثر وجعا لذات المهاجر الذي يحمل الحلم الكبير في التغير, وأشد ألما يلحق بالوطن, حيث يضعف تشكيل البدائل المعارضة لفكر وثقافة أنظمة القمع والدكتاتورية في أرض الوطن, مما يترك هذه الأنظمة تمارس مزيد من الانفراد والتحكم والهيمنة والقمع على شعوبها وحجبها عن النهضة الفكرية والثقافية والتنموية, و يجعلها فريسة سهلة لفكر التطرف الديني والسياسي في لحظات التغير المطلوب, مما يزيد من تصحرها وتخلفها الفكري والحضاري !!!!!.
والهجرة بهذه الضخامة والشمولية والخطورة تعبر عن اغتراب شامل, تتسع مظاهره ليشمل الاغتراب الديني, والاقتصادي, والسياسي, والثقافي, والتربوي والتعليمي, والاغتراب القيمي, وجميعها مسببة للعجز والإحباط الذي يتملك الفرد وعزلته الاجتماعية والذاتية. واليوم وبعيدا عن جذور الاغتراب التاريخية, تمر مجتمعاتنا العربية بمرحلة خطيرة تتفكك فيها الذات الفردية وتغترب على خلفية تدهور البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, حيث الفقر وانعدام مستويات إنسانية لائقة للعيش من خدمات مختلفة أساسية, صحية وتعليمية وغيرها, ويغترب الفرد على خلفية تفكيك وسقوط مؤسسات الدولة, الإدارية والأمنية والعسكرية والخدمية ولا نقصد بذلك سقوط النظم الدكتاتورية صانعة العزلة والاغتراب الداخلي والهجرة الخارجية ” فهذا شيء آخر “.
وشيوع نمط من الحروب الداخلية, الدينية والطائفية والأهلية والاثنية, مما يؤدي إلى تجزئة الأوطان وانسياقها وراء مشاريع التفتيت الجغرافي بواجهات مختلفة ” كما هو الحال في النموذج الذي يهدد العراق ” مما يهدد نسيجها الاجتماعي والثقافي, تدهور المؤسسة التعليمية, بكادرها ومناهجها ومجمل أدائها وإعادة إنتاج الأمية من جديد, تصفية وتهميش الطبقة الوسطى من مختلف المجالات العلمية والمهنية والخدمية, التطهير الواسع للأقليات العرقية والدينية والعبث بالتركيبة السكانية والاثنية, تدمير الذاكرة الوطنية والثقافية, من حرق وسرقة للآثار والمتاحف والمكتبات الوطنية ونسف الرموز الايجابية من شخصيات وأضرحة وتماثيل وقطع أثرية بمبررات دينية وسياسية, غياب الأمن والآمان الفردي والمجتمعي مما يجعل الجميع تحت مشاعر فقدان الجدوى من العيش والإحساس بالضياع وفقدان الأمل بالمستقبل, ازدواجية الخطاب السياسي في الممارسة العملية, بين ديمقراطية معلنة وإقصاء ودكتاتورية شرسة على ارض الواقع تمتد لتشمل كل مناحي الحياة وتفاصيلها اليومية بما فيها تقرير لقمة العيش !!!!.
العراق اليوم يمثل احد نماذج المنطقة التي تعكس مجمل تعقيدات الصراع وخلاصته السيئة المركزة, الى جانب نموذج الحرب السورية الداخلية ـ الاقليمية, حيث يشهد كلا البلدين نزوحا وهجرة جماعية لم يشهدهما من قبل. ففي العراق وبعد سقوط النظام السابق يشهد عمليات تشريد وسبي لكل مكوناته الاثنية والمذهبية والدينية, قائمة على خلفية نظام محصصاتي وأثني شجع الاقتتال الداخلي بين ابناء البلد الواحد, وعزز من دور الارهاب والبعث وقدرته على البقاء, وحرم السواد الاعظم من الشعب فرص العيش الكريم, وبطالة وصلت اقصى مدياتها بين فئات الشباب من الخريجين وذوي التحصيل العالي. وعلى خلفية ذلك يندفع اليوم مئات الالوف من الشباب الرجال والنساء ومن الاطفال لرمي انفسهم خارج الحدود بحثا عن الوصول الى بر الامان وتأمين الحد الادنى من ظروف العيش, وقد ادت بالمئات منهم الى الغرق او الموت في منتصف الطريق وقبل الوصول الى الساحل الاوربي. وقد وصل هو الاخر عدد المهاجرين ما بعد سقوط النظام الى عدة ملايين !!!.
كما تشهد سوريا موجات هائلة من النزوح والهجرة والتشريد بفعل عوامل الصراع الداخلي والاقتتال الذي دخل في عنق زجاجة الصراع الاقليمي العصي على الحل, وقد ذهب ضحية ذلك أكثر من ستة ملايين من الشعب السوري, بين مهاجرين ونازحين ومشردين ولازالت المأساة على أشدها, حتى غصت بهم العواصم الاوربية وتركيا بأنتظار من يجد لهم حلا وهم يحملون الموت على راحة اياديهم !!!.
تلك هي كوارث وخسائر نظم قمعية ومحصصاتية معمدة بمجمل التدخلات والمصالح والصراعات الاقليمية, تكون فيها الشعوب وقودا رخيصا وسريع الاشتعال, بين هجرة وتهجير وتشريد وسبي واضطهاد وقتل على الهوية وفساد ينخر الدولة والمجتمع وينهب المال العام ويضيع مستقبل أجيال !!!.