أعلن فضيلة الشيخ، أخطب خطباء بغداد، ردًّا على شعار المتظاهرين “باسم الدين باكونا الحرامية”، قائلا: أن القائلين به هم من الصعاليك العلمانيين. أما العلمانيون فقد عرفناهم، واشتبكت عليهم الألسن أو اختلفت؛ أما الصعاليك مصطلح اجتماعيّ قديم يتجدد مع تزايد حالة الفقر، وتوهج المطالبة بالحقوق.
في اللغة: الصّعْلوك: الفَقِيرُ الّذِي لَا مالَ لَهُ، وَلَا اعْتِماد، قَالَ أَبو النَّشْناشِ: (وسائِلَةٍ بالغَيبِ عَنِّي وسائِلٍ … ومَنْ يسأَل الصُّعْلُوكَ أَينَ مذاهِبُه) (تاج العروس 27/ 240) (الصحاح 4/ 1596). كل ما سجله علماء اللغة في معاجمهم من معاني، ينظمه أصل عام، وهو الضمور والانجراد. فالإبل تتصعلك إذا انجردت أوبارها وطرحتها. والخيل تتصعلك إذا دقت وطار عفاؤها عنها. والبَقل يصعلك الإبل أي يسمنها، وهذا السمن يجعلها تطرح أوبارها وتتجرد منها. والمصعلك من الأسنمة الذي يبدو كأنما فتلت أعلاه وأضمرته. وهو يصعلك الثريدة أي يجعل لها رأسا، أو يرفع رأسها، كأنها أضمر أعلاها. ومن مصعلك الرأس أي صغيرة وضامرة. وهو يتصعلك أي يفتقر كأنما تجرد من ماله، وبدأ ضامرا بين الناس. فالصعلكة، إذن -في مفهومها اللغوي-: الفقر الذي يجرد الإنسان من ما يملك (يوسف خليف: الشعراء الصعاليك، ص 22) و”الصعلَكَة”: الإعدام. (كتاب الأفعال 2/ 264) أي الفقر المدقع، الذي تُعدم فيه أسباب الحياة.
حين نرجع إلى أخبار هؤلاء الصعاليك في المجتمع الجاهلي نجدها حافلة بالحديث عن فقرهم، فكل الصعاليك فقراء، لا نستثني منهم أحدا، حتى عروة بن الورد سيد الصعاليك الذي كانوا يلجئون إليه كلما قست عليهم الحياة، ليجدوا عنده مأوى لهم حتى يستغنوا، فالرواة يذكرون أنه “كان صعلوكا فقيرا مثلهم”(التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 2/ 9). وتكثر في شعر ابن الورد أحاديث فقرِه، وما يعانيه من حرمان، وما يتكبّده في سبيل الغنى من جهد ومشقّة، وما يشعر به من ثقل التبعة التي يتحملها إزاء أهله، وإزاء أصحابه الصعاليك أيضا:
ذريني للغنى أسعى، فإني … رأيت الناس شرهم الفقير (ديوانه/ 198)
فسر في بلاد الله والتمس الغنى … تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا (ديوانه/ 191)
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا … من المال يطرح نفسه كل مطرح (ديوانه/ 99)
كانت قضية الصعاليك تتصل بمشكلة الفقر والغنى في المجتمع الجاهلي، وتنادي بثورة المستضعفين من فقراء هذا المجتمع والمضطهدين فيه على طبقة المَالَة من الأغنياء المُتخمين وخاصّة البخلاء منهم، وأنّ هذه الثورة كانت تستهدف تحقيق صورة من صور العدالة الاجتماعيّة والتوازن الاقتصادي في هذا المجتمع. ولا يمنع من القول بأن هذه الأفكار كانت تنطوي على إحساس عميق بمشكلات المجتمع الاقتصاديّة، ومحاولة جادة لحلها، وأنّ هذا -بدون شك- كان يمثل صراعا بين طبقة الفقراء، ممثلة في هؤلاء الصعاليك العاملين، وبين طبقة المالة، ممثلة في هؤلاء الأغنياء البخلاء، وهو صراع كان يضمّ في أعماقه براعم لم تتفتح تماما من النظرية الاشتراكية الحديثة. (خليف: م.س، ص8)
يبدو ان حراك الصعاليك و نشاطهم قد توزع على مناطق الخصب في الجزيرة العربية: اليمن، ونجد، وبعض مناطق السراة، ويثرب والوديان المحيطة بها. ونستطيع أن نقول -ونحن مطمئنون- إن كل هذه المناطق، بدون استثناء، تعرضت لغزوات الصعاليك.، حتى ليوشك أن تكون لكل جماعة من جماعاتهم مناطق اختصاص يتركز فيها نشاطهم. أما عروة بن الورد وصعاليكه، أو “فتيانه” كما كانوا يسمون أحيانا، فقد تركز نشاطهم الأساسي في منطقة يثرب وما يجاورها من شمالي الجزيرة العربية. وفي شعره وأخباره أحاديث كثيرة عن غزواته لهذه المنطقة. فهو يعلن صعاليكه مرة بأنهم لن يحققوا كل آماله، ولن يبلغوا أقصى همته، حتى يصلوا إلى يثرب منبت النخل فيغيروا عليها:
فإنكم لن تبلغوا كل همتي … ولا أربى حتى تروا منبت النخل (خليف: م.ن، ص78)
ذكر أبو الفرج أخبار عروة بن الورد ونسبه (الأغاني 3/ 72- 85): عروة بن الورد بن زيد وقيل ابن عمرو بن زيد بن عبد الله بن ناشب بن هريم بن لديم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، شاعر من شعراء الجاهلية، وفارس من فرسانها، وصعلوك من صعاليكها المعدودين المقدمين الأجواد، وكان يلقب عروة الصعاليك لجمعه إياهم، وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم ولم يكن لهم معاش ولا مغزى، وقيل بل لقب: عروة الصعاليك، لقوله :
لَحى اللُّه صُعلوكاً إذا جَنّ ليلُه … مُصَافِي المُشَاشِ آلِفاً كلَّ مَجزرِ
يَعُدُّ الغنِى مِن دهره كلَّ ليلةٍ … أصابَ قِرَاها من صَديقٍ مُيَسَّرِ
وللَّه صُعلوكُ صفيحةُ وجهِه … كضوءِ شهابِ القابِس المتنوِّر
وقال عروة بن الورد في معاناة الفقراء (ابن قتيبة: عيون الأخبار 1/348) : [وافر]
ذريني للغنى أسعى فإني … رأيت النّاس شرّهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم … وإن أمسى له حسب وخير
ويقصيه النّديّ وتزدريه … حليلته وينهره الصغير
وتلفي ذا الغنى وله جلال … يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جمّ … ولكن للغنى ربّ غفور
كانت مقالات ابن الورد المزهرة بأعماله توجب الفخر به، فقد قال عبد الملك بن مروان: ما يسرّنى أنَّ أحدا من العرب ولدني إلا عروة بن الورد، لقوله:
إِني امرؤٌ عافي إِنائي شركةٌ … وأنتَ امرؤٌ عافي إِنائكَ واحدُ
أتهزأُ مني أن سمنتَ وأن ترى .. بوجهي شحوبَ الحقِّ والحقُّ جاهدُ
أقسمُ جسمي في جسومٍ كثيرةٍ … وأحسو قراحَ الماءِ والماءُ باردُ
(ابن قتيبة: الشعر والشعراء 2/ 665) (مجمع الحكم والأمثال في الشعر العربي 1/ 205)
في الإسلام كان الرسول محمد يقدمهم خير مقدم، ورد في الحديث: “أنَّه كان يَسْتَفْتِح بصَعالِيك المُهاجِرين”، أي يطلب الفتح والظفر على الكفار من الله ببركتهم. (المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث 2/ 271). وورد فيهم حديث: سبقهم إلى الجنة بخمسمائة خريف وبأربعين، وقيل: فقراء المهاجرين يتقدمون على أغنيائهم بأربعين وعلى أغنياء غيرهم بخمسمائة. (مجمع بحار الأنوار 3/ 323).
وفي الأمثال ضرب به المثل في الجود:” كلّ صعلوك جوادٌ” لأنّ الفقير يجود بكل ما لديه. (الميداني: مجمع الأمثال 2/ 159)؛ وضرب مثلا في الشدة والبأس، قيل: إن رأته الأراقم رأت حتف نفسها، أو عاينته الأساود أيقنت بفناء جنسها؛ صعلوك ليل لا يحجم عن دامسه، وفارس ظلام لا يخاف من حنادسه. (نهاية الأرب في فنون الأدب 10/ 164). ودعوه لأن يظهر على أديم الأرض، [الطويل] ولله صعلوك تشدَّد همُّه عليه … وفي الأرض العريضة مصقع. ( لسان العرب 8/ 203 ؛ تهذب اللغة 1/ 180)، ويتظاهر في وجه أصحاب الثراء، بكل ما أوتي من قوة، ليكون محمودا في فعله وأثره، وها هو سيد الكرم حاتم الطائي يصدح: (ابن الشجري: مختارات شعراء العرب 1/ 13)
ولن يكسبَ الصعلوكُ حمداً ولا غنًى … إذا هو لمْ يركبْ من الأمرِ معظما
ولم يشهد الخيلَ المغيرةَ بالضُّحى … يثرنَ عجاجاً بالسنابكِ أقتما
عليهنَّ فتيانٌ كجنةِ عبقرٍ … يهزونَ بالأيدي وشيجاً مقوما
لحى اللهُ صعلُوكاً مناهُ وهمه … من العيشِ أن يلقَى لبوساً ومطعما
ينامُ الضحى حتى إذا يومهُ استوى … تنبهَ مثلوجَ الفؤادِ مورمَا
مقيماً معَ المثرينَ ليس ببارِح … إذا نالَ جدوَى من طعامٍ ومجثما
وللهِ صعلوكٌ يساورُ همهُ … ويمضي على الأحداث والدهرِ مقدمَا
فتى طلباتٍ لا يرى الخمصَ ترحةً … ولا شبعةً إنْ نالَها عدَّ مغنمَا
وكان لا يرتضى له، بل ويذمّ، إذا ما نام على الضيم والهوان، والفقر وكثرة العيال، ولم ينتفض، َقَالَ السليك بن السلكة: (الحماسة البصرية 1/ 109)
فَلَا يغررك صعلوك نؤوم … إِذا أَمْسَى يعد من الْعِيَال
إِذا أضحى تفقد مَنْكِبَيْه … وَأبْصر لَحْمه حذر الهزال
وَلَكِن كل صعلوك ضروب … بنصل السَّيْف هامات الرِّجَال.
نرجع الى فضيلة الشيخ الخطيب الأريب، هلّا فهم معنى الصعلكة والصعاليك؛ فهو بدلا مما أراد انْ يصوّر المتظاهرين من شذّاذ الناس وفتّاكهم ولصوصهم، دعاهم الى التمعن في تاريخ التصعلك المشرّف بأمجاد أخذ الحقوق من سلّابها. من هنا على الصعاليك الجدد، أن يشحذوا همّة ابن الورد، وينظموا أنفسهم بخيط المستضعفين المجاهرين بحقوقهم، وينشروا الوعي الحقوقيّ وأنماط المطالبة به، ونزعه من براثن المفسدين بأنساق مدنيّة.
المفسدون أغلبهم من السياسيين المتلفعين بلبوس الدين، الذين اجتزّوا رأس المال، وتركوا البلاد جثّة هامدة بلا حراك، يعتريها هوان الاقتصاد، وذلّة الإفلاس، وارتفاع البطالة في المدن الكبيرة حيث يكثر الصَّعاليك “(معجم اللغة العربية المعاصرة 2/ 1297). ولمّا انتفض الفقراء، وطلبوا الهجرة، أُتّهموا بالخيانة والجبن ونقص الدين، ولما تظاهروا في وجه الفساد والمفسدين، نُسبوا الى ضعف العقيدة، على الرغم من مناشدة المرجعيّة لردّ حقوق فقراء الشعب كانت واضحة ومستمرّة، أصرّت الفرقة الناجية على تحشيد التُهم، بين زندقة وهرطقة، وشيوعيّة وعلمانيّة، دون أن يرجعوا برهة الى التأمل فيما اقترفوه، ويراجعوا أنفسهم في التغيّر الذي أمر الله.