أولا : المندائيون بين الدولة واليونسكو
ــ 2 ــ
لم ينفتح المندائيون على ضرورة التعريف بجوهر دياناتهم إلا في اواسط القرن العشرين عندما سمح مشايخهم للمستشرقة البريطانية ( الليدي دوورا ) المختصة بالدراسات واللغات الشرقية القديمة بالأطلاع على بعض أسرار الديانة والمعتقد والعيش معهم لمراقبة ممارسة هذه المعتقدات عن قرب ، كما سُمحَ لها بالأطلاع على محتوى الكثير من الكتب المندائية المقدسة ، واغلب معايشتها مع الطائفة تلك التي قضتها في منطقة الكحلاء في العمارة وبعض المناطق وبمساعدة كبير مشايخ الطائفة في العمارة ، وخرجت بحصيلة وفيرة من المعلومات والأنطباعات دونتها في كتاب ونشرته ، بعد أن القت الكثير من المحاضرات في المعاهد والجامعات البريطانية ، وهي تتحدث عن هذه الطائفة ومكوناتها الأجتماعية والدينية ، وقد ترجم الكتاب من قبل بعض المثقفين المندائيين في مقدمتهم المربي المرحوم ( نعيم رومي ) وصدر في اكثر من طبعة وآخرها الطبعة التي صدرت عن دار المدى في دمشق عام 2007.
اليوم هذه الطائفة العريقة والتي يكن لها العراقيون الأحترام بمجمل اعراقهم وطوائفهم وخاصة الطائفة الشيعية التي جاورتهم وتعايشت معهم على مدى عقود تتعرض لخطر الأنقراض داخل الوطن الأم. بعد أن أخذ شتات الآلاف المؤلفة من العوائل المندائية في هجرة تكاد تكون جماعية بسبب النظرة القاصرة والمتطرفة التي ظهرت بعد الأحتلال اتجاه الاقليات والأعراق الدينية مشمولة بالكثير من الاراء الباطلة والتكفيرية والوحشية وصل الى الحد أغتيال الكثير من ابناء هذه الطائفة وبعض مشايخها وخاصة في مدينة بغداد ، مما اضطرهم الى الهجرة عن بلادهم وهم الأكثر شوقاً للبقاء فيها ، والمساهمة في رقيها بعدما كان للسجل الحضاري العراقي أسماء مندائية كثيرة طرزت عليه ابداعها وتألقها حيث يشهد للمسيرة التربوية الحديثة في العراق منذ نشأتها في اواسط القرن التاسع عشر ظهور طاقات علمية وتربوية ساهمت في تربية النشيء الجديد وخاصة في مدارس الجنوب العراقي وفي الأخص محافظتي العمارة والناصرية والبصرة . كما تتشرف الطائفة أن يكون من بين ظهرانيتها العالم الدكتور عبد الجبار عبد الله اول رئيس للجامعة العراقية في العصر الحديث ، وغيره من مبدعي الكلمة والقلم والطب والفلك والفن والعلوم الأخرى ، ومنهم الشاعرة لميعة عباس عمارة صاحبة الديوان الشعري الرائع ( لو انبأني العراف ) ، وتعد من رائدات الحداثة الشعرية النسوية في العراق وواحدة من ملهمات رائد القصيدة العراقية الحديثة المرحوم الشاعر بدر شاكر السياب.
وازاء هذا الخطر الذي يكاد أن يكون أول جرس انذار في العراق بأختفاء واحد من مكونات الشعب العراقي ، وأن حدث فهذا ينعكس تماماً على رؤى الآخرين للمتغير الجديد عندما لا يحرك احد ساكناً للحفاظ على هذا المكون النادر ، ولم يصدر أي بيان حكومي يضع رؤية واضحة وتدابير حاسمة ازاء ما يهدد وجود المندائيين ، بل انهم كمكون تاريخي لهذه البلاد حرموا من حق التمثيل في النسبة الظالمة التي حددها مجلس النواب في الكوته العرقية لكراسي مجالس المحافظات ، وكان الأجدى بالمشرع الدستوري أن يضع لهذا المكون وغيره من المكونات التي فقدت حق التمثيل ، يضع مقعدا شرفياً لهم في البرلمان والمحافظات الجنوبية التي يتواجدون فيها بكثافة ومنها محافظة بغداد.
كما تقع على عاتقة ممثلية العراق في منظمة اليونسكو لفت نظر المنظمة الدولية الى هذه الكارثة الحضارية أن تختفي طائفة لها أزل قديم من الخارطة العراقية بسبب موجات العنف والتطرف والتكفير ، وعليها أن تحث المنظمة العالمية الى تسمية أسبوع عالمي شعاره ( من اجل الحفاظ على المكون المندائي على التراب العراقي ) ، وهذا يحتاج من الممثلية العراقية في منظمة اليونسكو ومقرها في باريس الى جهد اعلامي وثقافي وترجمة موروث هذه الطائفة والتنسيق مع المنظمات المندائية في العالم ، وتعريف العالم فيه لغرض لفت الأنظار وانجاح حملة عالمية من أجل هذه الطائفة التي ظلت وعلى مدى عصور وأجيال ومتغيرات محافظة على ثباتها الحضاري والقومي والوطني ، ولم تتاثر بأي مرحلة وأي ثقافة وافدة بل تمسكت بعراقيتها واصولها وعصاميتها للحفاظ على نقاء وصفاء معتقداتها.
رؤية نضعها تحت انظار الحكومة ومنظمة اليونسكو من أجل جعل هذا الأسبوع تظاهرة عالمية وثقافية تهدف من اجل أبقاء التراث العراقي الأصيل منغرساً في الأرض كما نخيل العراق.