يعترف أحد قيادات داعش في الموصل بعد اعتقاله مؤخرا، أن “الفتح الذي تحقق في الموصل، كان اكبر من التنظيم نفسه”. وهذه العبارة تلخص المأزق الذي يمر به التنظيم منذ احتلاله لمدينة الموصل في 10 حزيران 2014 حتى الوقت الحاضر، والذي قد يكون المقدمة لنهاية عدد من تجارب ما يسمى بالعمل الجهادي، خارج عباءة التنظيم الام، تنظيم القاعدة.ويعود هذا الامر بشكل رئيسي، الى الاختلاف في اسلوب القيادة بين الزعيم الحالي لتنظيم داعش ابو بكر البغدادي، وبين سلفه ابو عمر البغدادي الذي اتبع اسلوبا مغايرا للعمل، وفي ظل ظروف مغايرة من حيث الوجود الامريكي في العراق.
بخلاف فترة تزعم ابو مصعب الزرقاوي لتنظيم القاعدة في العراق بين عامي 2003 وحزيران 2006، من الواضح أن تنظيم “الدولة الأسلامية في العراق والشام” المعروف بـ”داعش”، قد مر بزعامتين رئيسيتين هما فترة زعامة حامد داود الراوي (ابو عمر البغدادي)، وخليفته ابراهيم عواد البدري (ابو بكر البغدادي).ِ
فعلى الرغم من تطابق الغاية والأهداف الكبرى بين الزعيمين، إلا أن هناك اختلافا في السياسات والاستراتيجيات المتبعة من قبلهما، وذلك بسبب الظروف الموضوعية وضغوط الواقع الذي مرت به كل فترة عاشها الزعيمان.
ففي فترة ابو عمر البغدادي كانت السطوة الامنية في العراق للجيش الامريكي الذي كان يمتلك إمكانات عسكرية هائلة بما فيها اجهزة التعقب للاتصالات والرصد بالاقمار الصناعية وغيرها، ولهذا تجنب ابو عمر البغدادي اقامة المعسكرات في الصحراء أو المناطق المنعزلة التي يسهل رصدها فنيا من قبل الامريكان، ولجأ الى تركيز عمله التدريبي والتنظيمي في مضافات داخل منازل سكنية مؤجرة منتشرة في الكثير من مناطق العاصمة بغداد والمحافظات الغربية ومدينة الموصل.
اعتمد ابو عمر البغداداي على هذه المضافات لتدريب مقاتليه على صنع العبوات الناسفة، وتزوير الوثائق، واخضاع العناصر الى دورات أمنية وتدريب روحي وديني. كما أصدر أوامره المشددة جدا بعدم استعمال الهواتف النقالة تجنبا لتعقب اتصالات مقاتليه من قبل الامريكان.
على النقيض من الاجواء السائدة في فترة الاول، كانت الاجواء التي سادت في زمن الثاني أبو بكر البغدادي تختلف ظرفيا وموضوعيا. فقد تزامنت مع الانسحاب الامريكية من العراق بشكل تدريجي حتى نهاية عام 2011، ومع
انسحاب الامريكان بكل قواتهم ووسائلهم الفنية الخاصة بالتعقب وطائرات الاستطلاع، كان امام البغدادي فرصة اقامة معسكرات متخصصة بعيدة عن متناول الجيش العراقي الذي كان يفتقر الى الامكانات الفنية واجهزة المراقبة والطائرات المقاتلة، وقد ساعده هذا على استقبال الكثير من المهاجرين (المقاتلين من خارج العراق) في تلك المعسكرات التي تكون غالبا بالقرب من الحدود العراقية مع سوريا والسعودية والاردن.
كما سمح ابو بكر البغدادي لعناصر التنظيم باستعمال الهاتف بشكل محدود جدا، وبطريقة الشيفرة، بهدف تقليل الجهد والتكاليف والحد من امكانية كشف افراد التنظيم في حال القيام بلقاءات مباشرة، كما استثمر ابو بكر البغدادي خيم الاعتصامات التي اقيمت في عدد من المحافظات العراقية عامي 2012 – 2011، للاستفادة منها الترويج للتنظيم وتشجيع المزيد من العراقيين للانضمام للتنظيم، وشهدت تلك الفترة، تصعيدا ملحوظا في عمليات التفجيرات في بغداد، وشهد العام 2013 لوحده اكثر من 38 تفجيرا ضخما بعدد تفجيرات متزامنة ما بين 10 الى 15 سيارة مفخخة يتم تفجيرها في وقت واحد.
ما حصل في في الموصل من تقدم ميداني ومعنوي لداعش، وما تبعه من علنية في القتال والتواجد والظهور امام الناس، كان مخالفا لكبار منظري السلفية الجهادية، ومنهم ابو مصعب السوري، فهؤلاء يرون أنه لا بد للمجاميع القتالية الجهادية من تجنب الحسم بالمواجهة الثابتة مع عدو يمتلك قدرة الحسم بالطيران، ووجوب اعتماد اسلوب المخاتلة والتخفي والعمل باسلوب الكمين والاغارة بالنسبة للمفارز القتالية، لان المواجهة الثابتة تؤدي الى استنزاف قوة المجاميع الجهادية التي تمارس دور (النكاية والانهاك) امام جيش يفوقها في العدة والعدد والقدرة على القصف الجوي، وقد دأبت المجاميع الجهادية المقاتلة على اسلوب تحقيق نصر سياسي واعلامي كبير من خلال عشرات العمليات القتالية الصغيرة الخاطفة والمباغتة، كتفجير العبوات والسيارات المفخخة، والاغتيالات، والخطف والمساومة وزرع الرعب، وضرب الاقتصاد وغيرها من الاساليب.
لكن البغدادي خالف هذا النهج بوضوح، عندما كشف افراد التنظيم تحت الشمس، وتحول الى المواجهة الثابتة العسكرية، مدفوعا بما حصل عليه من تقدم ميداني في سوريا والعراق وسيطرته على ابار النفط وتدفق الدولارات على التنظيم، وكذلك سيطرته على الموصل واجاء كبيرة من شمال وغرب العراق.
كما ساعد سقوط المدن بيد داعش، واستحواذه على آلة عسكرية ضخمة ومنوعة، في تزايد اعتماد البغدادي على ضباط الجيش السابق، امثال ابومسلم التركماني (سعود محسن) وابو نبيل، وابو منصور وغيرهم، لما يمتلكونه من خبرة عسكرية في ادارة المعارك العسكرية والمواجهات الثابتة واحتلال المدن ورسم
الاستراتيجيات العسكرية الكبرى، والتي يفقتر لها اغلب اعضاء التنظيم الذين تدربوا على حرب العصابات والمفارز العسكرية الصغيرة .
ورغم أن اغلب هؤلاء الضباط لا يمتلكون تاريخا جهاديا مثل نظرائهم العرب والاجانب في داعش، كما ان اغلبهم كانوا اعضاءا في حزب البعث المنحل ولم يعرف عنهم الالتزام الديني، لكن حاجة البغدادي الى هذا النوع من المخططين الحربيين، دفعه وباقي قيادات التنظيم الى التغاضي عن الاسلوب المتعارف عليها في التظيمات الجهادية، وهو العناية الشديدة بسيرة افراده وضمان التزامهم الديني باعتباره أحد أهم موازين الاعتماد عليهم في تسلم المناصب الحساسة.
ان كشف البغدادي للتنظيم بشكل علني، يثير قلق الجهاديين العالميين في افغانستان ومناطق اخرى من العالم، خصوصا مع تزايد ارقام القتلى من التنظيم، في حروب مفتوحة ومباشرة في سوريا والعراق، ومع قوات عسكرية تفوقهم عددا وعدة ومجهزة بالطائرات. في وقت تطمح في هذه التنظيمات، وعلى الاخص القاعدة بقيادة الظواهري، الى استثمار هذه الاعداد من المقاتلين في مختلف بلدان العالم وتحقق من خلالها مبدأ “عالمية الجهاد” بدلا من تركيزه في بقعة واحد من العالم تكون فيه صيدا سهلا للطائرات والقوات النظامية.
لهذا كله، قد لا يكون من المستبعد بدء مرحلة جديدة لتراجع قوة التنظيم وانحسار نفوذه، خصوصا بعد ان بات يقاتل على عدة جبهات في مناطق محصورة ومكشوفة، في مقابل جيوش تمتلك العدة والعدد والدعم الوجستي اللامحدود، ويتلقى الضربات الجوية بشكل يومي.
يضاف الى هذا، أن التحالف الدولي ضد داعش يأخذ في الاتساع يوما بعد يوم، وما التعزيزات العسكرية التي نقلتها روسيا الى داخل سوريا، واعلانها العزم على محاربة داعش، الا دليل اضافي على ظهور داعش العلني وكشفه بشكل مباشر امام كل القوى الاقليمية والعالمية، وبناء على استراتيجية البغدادي نفسه، ستحمل معها نهاية التجارب المركزية للحركات الجهادية ممقلة بداعش، وربما العودة الى التجربة الام التي ابتدعها تنظيم القاعدة، وهي تجربة عالمية الجهاد، وانتشاره على مساحات واسعة يمكن ضربها او تأزيم الاوضاع فيها كلما اراد التنظيم ذلك.
دون المجازفة بالحروب لتعرض لابي كل بلد بوادر ات البغداد، ستكون نقمة من قبل زعامة البغدادي وتركيزه على بقعة محددة في المنطقة، ان اخذ في التوسع ويبدو انه عاقد العزم على القضاء على هذا التنظيم هذه المرة .
ان اطلاقة الرحمة التي توجه الى هذا التنظيم هي توفر ارادة حقيقية لتركيا لضرب تنظيم داعش والتضييق عليه ومنعه من ادامة الزخم وقطع المدد اللوجستي الذي ياتيه عن طريقها، ويبدو ان الضغوط التي تمارس على تركيا من قبل المجتمع الدولي قد ازدادت في الاونة الاخيرة خصوصا بعد ان اخذ ناقوس
الخطر يدق في كنائس اوربا ، بالاضافة الى ذلك فان تركيا قد حصلت على ما يبدو من الولايات المتحدة الامريكية على تطمينات بعدم تمدد الاكراد الى ابعد من منطقة تل ابيض لتحقيق حلمهم في الوصول الى البحر الابيض المتوسط بعد الوصول الى منطقة عفرين واعلان دولة كردستان الكبرى ، فقد يمنح الاتراك الفرصة للتوغل الى الداخل السوري لقطع طريق التمدد الكردي ، مقابل خنق داعش ، وعلى ما يبدو ان هناك غض طرف دولي عن ما تفعله تركيا في حزب العمال من قصف وقتل وتشريد وهو ايضا يقع ضمن صفقة انهاء داعش .
ان معلومات الاستخبارات العراقية تفيد بوجود جهاديين عراقيين كانوا مقربين من الزرقاوي قد بدأوا يخالفون منهج ابو بكر البغدادي وطريقة عمله وهم لايزالون على بيعتهم مع الظواهري، وهؤلاء يمتلكون اتباع كثر في تنظيم داعش ولهم كلمة مسموعة وتأثير روحي كبير في اوساط التنظيم ، وان ابو بكر لايستطيع ان يتورط بقتل هؤلاء ويخوض بدمائهم خشية من الفتنة التي ستعم التنظيم في حال مقتلهم ، وهذا بحد ذاته يعد عاملا مؤثرا في ضعف تنظيم ابو بكر البغدادي