كنتجية حتمية لمجمل المشهد العراقي وصفحاته اللاهبة ، اصبح النزوح حالة ملزمة لبقاء الحياة وليس خيارا لتحسين حالة العيش او اشباعا لطموح ذاتي ، النزوح الحاصل اليوم في العراق نزوحا قسريا لا خيار فيه لا في الاتجاه ولا في التوقيت ولا في الهدف . يفرض النزوحنفسه كحالة آنية طارئة يجد فيها الانسان كفرد او رب العائلة كوحدة اجتماعية ان البقاء في سكنه يعني الموت المحقق ، ولا مفر من حالة البقاء الا الموت المحقق ولهذا اصبح النزوح حالة من الاضطرار للحفاظ على الحياة . لم يعد الانسان العراقي بعد التجارب المريرة و واقع الاحداث التي يشهدها كل يوم قادر على تعليل بقائه في موطنه بان الموت آتيه اين ما كان وان الاتكال على مشيئة الخالق امر واقع ، لا لقلة ايمان واعتماد ، ولكن لحالة الياس والقنوط وهو يشاهد اعداد الموتى والمنكوبين في منطقته وفي مدينته او قريته او مزرعته بأم عينيه ولم يعد يقبل بمثل هذه الطريقة من الموت المتعمد والمصير المستهدف .
النزوح يعني تغيير السكن والاقامة ضمن الرقعة الوطنية لهوية المواطن وفي العراق كان هذا النزوح في الظروف الاعتيادية ياتي بقرار من النازح يتعلق بتغيير في طبيعة عمله او استقراره وعيشه وهو نزوح خيار. وهذا النوع من النزوح ايجابي كونه يتعلق بتوق لحياة وعيش افضل حسب قناعة النازح وبالتالي فان هذا النزوح هو الذي ادىالى حالة التعايش والامتزاج في المجتمع العراقي وزاد من انفتاح المكونات والعرقيات والاثنيات على بعضها البعض واكسبها حالة التماسك والألفة على النقيض من حالة الانكماش والتقوقع ، وحتى في المجتمعات القبلية والبدائية كان التفكير بالنزوح خيارا لعيش افضل عند العشائر والقبائل بشكل جماعي اما لاسباب جغرافية او اجتماعية او اقتصادية او امنية . ولم يكن النزوح الجماعي لاسباب النجاة بمنحى قسري ظاهرة الا بعد حدوث الصراعات العسكرية والحروب الدامية وتطور اسلحة الدمار الشامل . نزح الاكراد الى محافظة الانبار ومحافظات خارج المنطقة الكردية واستقبلوا واستوطنوا في سكنهم لحين غياب الاسباب القاهرة وقسم منهم بقى فيها لولا الاحداث اللاحقة ، ونزح اهل البصرة في الحرب العراقية الايرانية وتم استقبالهم بحفاوة في المحافظات التي نزحوا اليها واستقروا فيها وزاولوا عملهم ومن المؤكد ان عمليات نزوح بسبب صراعات قد حدثت في غابر الايام وادت الى تواجد فضول الناصرية في كبيسه وبني حيدر كبيس في الدور وكركوك وهكذا توزعت العشائر وتقاسمت وسائل عيشها وأمنها بين محافظات العراق ومدنه .
النزوح الذي يشكل صفحة اساسية من دفتر النكبة العراقية الحالية ظاهرة مميتة وقاتلة لا حل لها ولا علاج كونها تمخضت عن نكبة العراق المتفاقمة لآكثر من عقد من الزمن السيئ والظلام الحالك والفوضى القتالة والجوع المهلك والجهل المطبق والظلم المتوحش والمرض القاتل والبطالة الخانقة والفساد المستشري والفقر المظني والاستحواذ بمصائر البشر والصراع الدائم . في ظل هذه الظروف ، كان النزوح الجماعي الغريب في الاطوار والملابسات بالمواصفات التالية :
اولا : نزوح مليوني يقترب من خمسة ملايين بشر .
ثانيا : بلا ضيافة او مقبولية ، لانه يشكل ازمة مستجدة في اي وجهة من بقاع الارض العراقيه ، لا خيار فيه للنازح ولا للجهة التي يأوي اليها النازحون .
ثالثا : نضوب في مؤهلات العيش والبنية التحتية والمال في كل انحاء العراق لسكان المدن والمحافظات جميعا ، فكيف يكون شأن النازحين بالملايين الى اماكن ومحافظات هي بالأساس منكوبة او متأزمة .
رابعا : نزوح في عراق متعدد السلطات ومتعدد الولائات ومتعدد الاحتلالات تتفاقم فيه الطائفية والعرقية ومظاهر التقسيم والتشظية منقوص السيادة ، اكثر من ثلث سكانه أسرى عند سلطة متطرفة تكفيرية وثلث آخر تحكمه سلطة عرقية تجردت عن معنى المواطنة الحقة وتتصرف وكأنها دولة لوحدها ، وما تبقى من سكانه غارقون في جهل الطائفية المقيتة والاحتراب الطائفي المقيت .
خامسا : نزوح من الموت المحقق السريع الى الموت المنهك البطيئ .نعم نزوح الى الجوع الى الأمية الى العراء الى المرض ناهيك عن الاستهداف والقتل المباشر الذي يستهدفهم .
سادسا : أنا لم أقرا في التاريخ ان دولة فاشلة او سلطة ارتكبت بحق شعبها ما ارتكبت حكومات الاحتلال بحق شعبها ، تستطيع تحقيق نصرا عسكريا على عدو يهيمن على ثلث العراق ولديها المال والسلاح ؟ ويتسبب بنزوح ملايين العراقيين ويعرضهم الى الموت البطيئ الذي تعاني منه ؟ .
النزوح اليوم هو اكبر كارثة بشرية بحق العراقين لانه حصيلة حتمية لكل صفحات النكبة وبالتالي فان كل امكانيات السلطة العراقية لا تفي بمتطلبات النازحين ولا حل الا بعودتهم الى ديارهم ومدنهم وهذا لن يتم إلا من خلال تحقيق انتصار حاسم والذي يتطلب وقفة شعب موحد وجيش مهني كفوء وتوافق عربي واقليمي ودولي صادق ، وهذا لا يمكن حصوله ضمن القراءة الواقعية لمجرى الاحداث والشواهد . لم يبق من حل الا الارادة الشعبية الواعية الكفيلة بإطاحة انظمة الفساد وتحقيق التغيير الجذري المنشود .