كان للفتوى التي أصدرها السيد محمد حسن الشيرازي في تحريم امتياز التبغ في سامراء عام 1891 أثر كبير في اعادة الالتحام وتعشيق العلاقة المتجددة بين الفتوى والعشيرة في المشهد الاجتماعي في العراق, بعد ان كانت وعلى طول التاريخ في حالة شد وجذب, حيث جاءت هذه البداية في العصر الحديث لتمثل نموذجا” قويا في انبثاق ا لدور التاريخي الجديد لرجل الدين وللحوزة العلمية في تحريك الجماعات البشرية المتنافرة في طبيعتها في العراق، إذْ طرح رجل الدين دوره من جديد في الحياة السياسة في العراق بحكم العلاقة المتناقضة دائما مع العشائر العراقية التي كانت ولازالت تحتضن عادات واعراف متوارثه، وطباع مخالفه للعقد الشفهي بين التبعية المعلنة لرجل الدين والمعارضة الخفية لتعاليمه.
تميزت بعض عشائر العراق بامتهانها السرقة والغزو وقطع الطرق وحافظت على هذه السمات حتى بعد استيطانها المدن، وتمثل حالة قبيلة جربه في غرب العراق عندما دفعت بقبائل الديلم والعبيد والجبور عن أراضيهم ودفعتهم بعيدا بالقتل والنهب والغزو. بالإضافة الى فرضها الاتاوات على العشائر الأخرى او السيطرة على طرق المواصلات البرية والنهرية، فمثلا” عشيرة زبيد كانت تفرض غرامات مجحفة بحق المسافرين بين بغداد والبصرة خاصة في مدية الكوت. وكذلك عشيرة (عنزه) كانت تسلخ جلود المسافرين ان لم يدفعوا ما يرضي طمع وجشع شيوخهم قبل الاحتلال البريطاني للعراق. وكان القانون العشائري (السواني) رغم الطاقة الأخلاقية الجميلة التي يحملها الا ان اغلب العشائر لا تلتزم بهذه القوانين حرفيا” لعدم وجود قوه قاصمه تطبقها غير البعد الأخلاقي والذي كان دائما ضعيف.
دُهِش العراقيون والعالم امام شاشات التلفزيون في 2003 من غرابة وتحول وقار المجتمعات التي كان يظنها العالم متمدنة (ظاهريا) الى تأصيل متقن للنهب والسرقة وتدمير ممتلكات الدولة وكل ما هو قائم على مبدأ الملكية العامة، والعجيب ان يتم نهب هذه المؤسسات من قبل سكانها والتي تمثل مصدر البنية التحتية التي تخدمهم، حيث يصعب تفسير ان يهب افراد في قريه ما لتفكيك منظومة الماء او الكهرباء في قريتهم، ولكن الحقيقة هي ان تاريخ العراق مليء بمثل هذه الاحداث المرعبة التي يتمثل فيها الانهيار السريع للبنيه الثقافية والأخلاقية للمجتمع اثناء الاحداث الكبيرة, حيث حصل مع يهود العراق في 1948 عمليات مشابه من سلب ونهب لممتلكاتهم ومنازلهم بعد ان تم الإعلان عن ترحيلهم, وقبلها الكثير اثناء حكم العثمانيين, ولكن كان النهب فقط لمراكز السلطة العثمانية وليس لممتلكات المدنيين, فقديما كان الأنسان يخشى تهمة السرقة أو نهب ممتلكات الأخرين خاصة في بعض المدن العراقية خوفاً من ثقافة العار والعيب التي تغلف الأطر العامة للسلوك الشعبي , اما بعد التسعينات من القرن الماضي حدث انقلاب هائل في المدن العراقية حيث تأكلت البنيه الأخلاقية وارتدت المجتمعات في وعيها الى همجية القبيلة في النهب والسلب و يحدث احيانا” باسم الدين وتحت شعار زرعه رجال الدين في عقل الأنسان وهو أن الله غفور رحيم ,حيث قتل بعض رجال الدين الضمير والإنسانية في أعماق العراقي فضاع دينه وحياته واخرته في معمعة التفسير والتضليل.
بعد هزيمة العراق عام 1991 لجأ النظام الى تفعيل الهويات المقموعة وحول المدن الكبيرة الى قرى وقبائل انتعشت فيها مظاهر البدو سواء في القيم والاحكام وحتى في المظاهر العامة، وهي الهوية الوحيدة التي بقيت صامدة بعد الاحتلال، بعد ان تم تدمير جميع مرتكزات الدولة العراقية عمدا ولم يبقى امام الطبقة السياسية او من يعمل على نهضة الوطن الا اللجوء الى العشيرة كبنيه بدائية في اعادة صياغة الكيان الوطني, ومنذ ذلك الحين أصبحت العشائر قطب الحركة الرئيسي في المناورات والتنافس الانتخابي و توجيه الراي العام , واخرها صناعة الحشد الشعبي للدفاع عن البلد بعد ان يأس العراقيين من احياء جيش وطني يحفظ العراق.
البنيه البطريركية ( الأبوية) للنظام العشائري في العراق تختلف عن نظام القبيلة في الوطن العربي في علاقتها برجل الدين , حيث لم تعد المعادلة القديمة بين الفقيه والعشيرة بعد 2003 كما كانت في النصح والتحذير فقط, حيث كان رجل الدين يستحوذ على الوعي الجمعي للعشيرة كقطب احادي يقيمه الحكم الفقهي , وكان يتمدد في حضيرة العشيرة دون الاخذ بالاعتبار التطور التاريخي لنمو وعي افرداها وتطور مستقطبات سلوكهم ومثلت انتخابات عام 2005 نموذجا” لبدايات التوافق الاستراتيجي بين الفقيه والعشيرة, او في التصويت للدستور عام 2010 حيث مثل تبادل المواقف من اهل السنه في الرفض اذاعانا” للمد الفقهي او الاستجابة التامة في جانبه الشيعي, اعقبه احتفاء غير مسبوق من قبل القيادات الدينية للرموز العشائرية تجسد في مؤتمرات الحشد الجماهيري لحزب الدعوة والتيار الصدري, ومظاهر الانتفاضة في المنطقة الغربية بالتوافق مع الشيخ السعدي, رغم ان هذا الالتحام والتوافق له مفارقات رائعة في التنظيم السياسي الا انه فكك البنيه الفوقية للمشاعر الوطنية ومدد نسغ الاحتراب الطائفي بشكل غير مسبوق في التاريخ الإسلامي, فاصبحت شعارات الحرب والتهديد والتشهير بين الفرق جميعا” يتبادلها الاعلام ومواقع الفيسبوك واليوتيوب على نطاق واسع.
تميزت مرجعية السيد السيستاني كونها ارست نموذجا للخط القديم الذي لا يتبنى يوتوبيا ولاية الفقيه ,كانت فيه الحوزة العلمية منبر للتوجيه الاخلاقي والفقهي فقط, من دون استخدام العشائر والمنظومات الاجتماعية كوسيله لغايات سياسيه بعيدة المدى, ولم تتدخل كثيرا” في الحشد العام الا بعد سقوط الموصل, حيث تميزت بالحصافة السياسية والتأني في ردود الأفعال رغم المأخذ الكثيرة في سكوتها عن مظاهر الفساد في الحكومات المتعاقبة بعد 2003 والتي قد يكون لها حسابات أخرى تتجنب فيها تكريس دورها كمرجعيه سياسيه, ولكن بشكل عام لم تتأثر بنموذج الإسلام السياسي البرغماتي الذي يستخدم الامتزاج الثلاثي بين( رجل الدين – السياسي – شيخ العشيرة) كمطرقه لضرب الأطراف الأخرى من اجل مناطق نفوذ او مغانم دنيوية.
ابقت الحوزة الحالية العلاقة خطيه بين الشرع والعشيرة على خلاف المؤسسات الاخرى اتي انتجت وسيطا” مرنا” يحقق غايات غير نبيله، وبَنَتْ نموذجا” للرأي العام تم تحديده بأعمدة يطرحها الفقيه احمد الصافي كثوابت للحركة الاجتماعية والعشائرية، حيث مهما تغيرت المخرجات التفاعلية للعشيرة مع السياسي يبقى نموذج القيم العشائرية المتوافقة مع الدين ثابتة لا تتغير. وهو ما حاول الحكيم ان يكون امتداد له ولكنه خسر مرتين الأولى بعد 2010 و الثانية الان، والتي يتم فيها ولأول مره التجاوز علنا” على اسم عائلة الحكيم من قبل المتظاهرين ,بينما اتجه التيار الصدري (بحوزته الناطقة ) الى استخدام الجماهير كوسيله للتمدد خارج عباءة الفتوى , والضغط على الأطراف الأخرى بشكل غامض, فأنا لا افهم مثلا” طبيعة الاحتجاجات التي سيقوم بها التيار هذه الأيام وهو يملك 35 ناب و3 وزراء, فهنا الاحتجاج والتظاهر ضد من؟؟؟ .
ان الشراكة بين رجل الدين والعشيرة لن تتوقف, وهي لست نابعه من الفهم التقليدي لرجل الدين الذي يرى في قوة الفتوى تبريرا” مطلقا” للاستحواذ على الوعي الجمعي للعشيرة فقط, بحيث يرتسم هذا الفهم كأفق ثابت من دون مراعاة التطور والتنامي الهائل في نمو الكينونة الغافية لأفراد العشيرة, فبعد دخول الاتصالات وتفجر المعرفة بشكل غير مسبوق اصبح من الصعب التكهن على المدى القريب ببقاء الاحتواء التقليدي للعشيرة في كنف العمامة الغير متشحه بلون الفساد , فلربما على المدى المنظور يتراكم على محور الوعي الجمعي وتتزايد الأهمية الاستراتيجية للمفتي اذا كانت العلاقة تستمر بهذا الشكل الثنائي في تبادل الأدوار الغائي , و الابتعاد عن النموذجين (ولاية الفقيه) او تحويل الجماهير الى بنادق ماجوره للحروب العائلية , واعتقد انه سيبقى المد العشائري مهيمنا” على المشهد العراقي والعربي لفتره طويله جدا”, وهذا ينطبق تماما في اليمن و التي تتشابه كثيرا” معطيات واقعها مع العراق.. او في ليبيا التي لن تهدأ على المدى القريب، فالنظام العشائري المتخلف لا يمكن اعادته الى كهوفه الا بخطط طويله المدى من التنمية البشرية وبرامج التعليم الذكية التي ترفع قيمة الحضارة في الانسان ولا تدع الأفراد وقودا” لحروب تافهة لا تتوقف الا بموت البطل كما في الأفلام الهندية.