يحاول المطبلون، والمزمرون، تصوير الفتوى التي أطلقتها المؤسسة الدينية بمجاهدة داعش على أنها موقف تاريخي يضاهي، وربما يفوق، فتوى مجاهدة الإنكليز التي أطلقت في العشرين من القرن المنصرم، بل إن المؤسسة أشاعت، من خلال بعض وكلائها، فكرة أن الفتوى قد استوحاها علي السيستاني من الأعلى! وكالعادة، لم يكشفوا عن المقصود من كلمة “الأعلى” وإنما تركوا تفسيره لذكاء المتلقي، الذي خلقوا له أفق انتظار، ومسبقات تفسيرية كفيلة بالانتقال به إلى المعنى المطلوب.
التسويق الإعلاني للفتوى ذو السقف المرتفع، كماً، وكيفاً يركّب للمؤسسة أجنحة سحرية تفصلها عن الواقع الفاسد الذي صنعته، من جهة، ويمنحها، من جهة أخرى، أسطورة إعلامية تستبدل بها صورتها ممسوحة الملامح، أو بالأحرى مشوهة الملامح، وتوفر لها، بالنتيجة، الزيت اللازم لإدامة حياتها، ودورها التسلطي التخريبي. وقد تجلى هذا الدور، أخيراً، في سعيها المحموم لفرض أبوتها غير الشرعية على الانتفاضة العراقية، لتحريفها، وتفريغها من كل مضمون.
إذن يجب أن يكون مفهوماً، الآن، إن هذا الخوض المتأخر نسبياً في الفتوى سببه التوظيف السيء لها، ومحاولة استغفال وعي الجماهير العراقية باتخاذها ممراً لتهريب دور الأبوة المشؤومة للمؤسسة.
لكي نقف على حقيقة فتوى المؤسسة الدينية لابد أن نستحضر الدور المشبوه الذي لعبته المؤسسة إبان الاحتلال الأمريكي للعراق، هذا الدور الذي فتحته بأغرب فتوى في تاريخ التشيع، وأكثرها انحرافاً عن الثوابت الإسلامية، على الإطلاق، متمثلةً بإغلاق باب الجهاد الدفاعي بدعوى أن لا مورد للجهاد في زمن الغيبة الكبرى، كما أفتى علي السيستاني [على الرغم من كون أئمة الشيعة، وفقهائها قاطبة، وفي جميع عصورهم، ومنهم السيستاني نفسه، يفتون بكون الجهاد الدفاعي أمراً فطرياً لا يحتاج إذناً من إمام، ولا يتوقف على الفتوى إطلاقاً!]، وتوجته بالعملية السياسية المحاصصاتية، ودستورها سيء الصيت، المسؤولين عن كل الخراب الذي يشهده العراق. المؤسسة الدينية، بكلمة واحدة، هي عرّاب اللعبة السياسية العراقية، ومصيرها مرتبط بمصير هذه اللعبة، على الرغم من كل المحاولات التي تبذلها للتملص، والتفكيك بين مصيرها ومصير اللعبة. على هذا تكون الفتوى [التي خالفت المؤسسة فيها فتواها المنحرفة السابقة، وأثبتت بالتالي أن الدين قماشة تفصّلها على مقياس رغباتها، ومصالحها] إجراءً دفاعياً يندرج في السياق المتوقع من عراب العملية السياسية.
لا ينبغي أن ننسى، كذلك، أن المؤسسة الدينية قد اختطفت لنفسها دور القيادة الدينية، وهو دور يحتم عليها القيام بوظيفة الحفاظ على حياة الناس، ومصالحهم، وهنا تكون الفتوى إجراء وظيفياً لا يسع المؤسسة تركه، أو التقاعس عن القيام به، إذ إن عدم الافتاء يعني أن المؤسسة قد استقالت من منصبها، أو قل، بتعبير أصح، رجعت عن غيها المتمثل باختطاف دور القيادة، وعلى الناس، من ثَمَّ، أن تبحث عن القيادة الدينية المستحَقة.
أمر أخير مهم جداً، لإنزال الفتوى من سماء الأسطورة، وربطها بالواقع، يتمثل بحقيقة أن الخطر الداعشي يستهدف الجميع، بما فيهم المؤسسة الدينية، التي لا يفصل موقعها عن بعض المدن التي سيطر عليها الدواعش سوى انهيار متوقع في القوات المسلحة.
إذن في كل الأحوال، الفتوى لا تستحق كل هذا الجنون الخرافي الذي يُشاع عنها، وليست في أحسن أحوالها سوى إجراء فقهي، وسياسي تقتضيه سياقات وظيفية بحتة، لا تستحق المؤسسة، على قيامها به، إطراء من أي نوع كان.