امرأةٌ وشجرة، سحرٌ أسودُ أو أحمرُ، لا فرقَ.
فيلٌ يحملُه منطادٌ، أو طائرةٌ ذاتُ جناحين. وأنا يستغرقني العجبُ.
أيّ مشهد غرائبي أرى؟
أحفرُ في جدار الذاكرة كُوّةً، لعلّها تُريني مشهداً ماضويّاً من أيامي الآفلات، الغافيات طيّ ركام ماضويّ.هذا الطريقُ، لا أدري من أين يجيءُ بالقوافل القروية المُحملة بالجبن واللبن والحبوب ، بدءاً تصبّ في محلتنا ومنها تلج الأسواق وخانات الحبوب. ثمة تُباعُ البضاعةُ القروية ، ويُشترى بأثمانها السكرُ والشاي والدخان والأقمشة .يعودُ الركبُ عصراً، لكن متى يصلُ مأرَبَه؛؛ أراهم متعبين ودوابَهم تحمل مشترياتهم.
كنتُ أمضي وقتي بعد الظهيرة، غبّ عودي من المدرسة، خارج محلتنا المُحاذية للفراغ الفوضوي المُحيط بطرف مدينتنا الغربي .
في أيام العطل أجيء صبحاً ، أرى شروق الشمس ، والضوء الصباحي ينتشرُ ، تبدو مرئياتُ النظر كما لو كانت تسطعُ خللَ مرآة كبيرة. ينقضي الوقتُ سريعاً أو بطيئاً مملّاً. ليس مهماً لديّ انقضاؤه، بل ما أفعله لوأدِ الملل . مرّة أعدو حتى يعروني التعبُ، أو أقرأ حتى يغشاني السأم. حيناً أغنّي، ، اطاردُ الطير ، احياناً أشاكسُ صيادي الطيور،أهدّدُ شباك مصائدهم. فيُجاملونني ببعض الطيور النادرة كالعنادلة والقُبَرات ، ثمّ أطلقها في طريق العودة الى محلتنا. بل، ارسُمُ على الرمل، أو على العشب الأخضرما يعنّ بخاطري
أحياناً أكون بصحبة / خالد قادر/ صديق أخي الأكبر مني، هو أيضاً يقرأ فروضه المدرسية في الفضاء الفسيح، نعودُ معاً ، يطلب اليّ أن أغنّي له ، يبدو أن صوتي جميل ُ أحفظُ جلّ أغاني ليلى مراد وعبد الوهاب وفريد الأطرش، وأغنية : على بلدي المحبوب ودّيني لأم كلثوم. أرى عينيه تدمعان ، يقتربُ مني يضعُ ذراعه على كتفي. أحياناً يدعوني الى بيتهم، أتناولُ طبيخ زوج أبيه، الطيّبة. ويغرفُ الرزّ من قاع القدر/ أتدري لماذا؟ يسألني/ لا أعرفُ، أجيبُ/ لأنّ السُّمنَ ينسربُ الى الأسفل / هذه معلومة جديدة أجهلها/ … في حالات أخرى يصحبني الى البيت أتناولُ مع أفراد العائلة العشاء. وقد نجلس على عتبة بابهم الأعلى من أرضية الشارع، نتمرأى الى المساحات الخضر المكتظة بالقثاء والفلفل والطماطة والسلق واللفت والفجل والكرفس…. رائحة الحقل طريّة، عبقةٌ بهواء بليل بارد. كنتُ أحبّ بيتهم، فقد جدّدوه بايقاع عصري، امرأة أبيه تودّني كثيراً، لذلك تكثر خيراتُها وأفضالها عليّ، تزدحم بحنان الأم الذي أفتقده. لكن، لمَ لا يُحبُّه خالدٌ؛؛ أتذكّرُ أمَّه المريضة، كانت هي أيضاً تُداريني، تعرفُ بغريزة الأمّ أنّ زوجة أبي تضطهدُني ، وكلما أجيء بيتها تضعُ أمامي صينية المُعجنات، أختار بعضاً وأكتفي .تقول: خذْ أكثر حتى تشبع. أهزُّ رأسي : لقد اكتفيتُ.
ذي زوجة أبيه تضع أمامنا صحن الرز، تعلوه قطعُ اللحم، آكلُ بحذر شديد بلا شراهة.
خالدٌ صديقُ أخي ، بيد أني أقربُ اليه منه. حين أعود من المدرسة، أعبّيءُ جيبي بتمر الأشرسي، يمدُّ خالدٌ يده فيلتقط ما يشاء منه. تخرّج هو في كليته وأنا في المرحلة الثانية . أحياناً أراه جالساً في مقهى الزهاوي برفقة أخي. كنتُ أخشى المرور أمامه والاقتراب منه. فأغلب مدرّسينا يرتادونه، يجلسون في الواجهة المُحاذية رصيفَ المُشاة . أمرّ من الجهة المقابلة للمقهى، أمام الصيدلية والخياطة الاسلاميتين .أرى عثمان الشحاذ وقذ امتلأت جيوبه بالنقود المعدنية والورقية من فئة ربع الدينار. قبيل صلاة المغرب يتوجه الى الجامع الواقع في الزقاق الذي جرى معظمُ لقطات فيلم سعيد أفندي فيه. فيحسبُ وارده اليومي . ولطالما طاردني بعصاه. لكنّه في الجامع يتحوّلُ الى حمَل وديع لا يرفع عينه نحوي.
لا أدري لمَ تنثالُ عليّ هذه المشاهد من أيامي الماضيات ؛؛ وأنا العجوز الجُ عامي السبعين. قوّةُ الذاكرة ميزةٌ أحياناً، وآفةُ خطر حيناً آخر، فتحملُ الينا أشجانَنا القديمة ، تفتحُ جراحاتها الملتحمة… تجيءُ الصورُ مثل مياه النبع ، سلسة هادئة، ناغمة وحزينة ، يشوبُها وجعٌ، قهرٌ، لحظاتُ ألم وأمل. حين أعصرُ قماش ذاكرتي يهمي ماءُ آدميتي، لكنّي أظلّ مُتفرداً بينما تقهقرَ أقراني ممّنْ مرّوا بذات ظروفي ، تقوّضت أوردةُ اصرارهم وضاعوا. فيما تشبثتُ لا بالأمل وحدَه، بل بجسارتي التي قادتني الى ما أنا عليه الآن.
أقفلُ عينيّ بين آونة وأخرى، استرجعُ أيامي الآفلات. فأستغربُ. أغلبُ الظنّ أنّ جميع الناس مرّوا بما مررتُ به. الضعفاءُ تقهقروا، غشيهم النسيانُ، أنا بقيتُ، لويتُ عنق زماني، رميتُ عن كاهلي الوهنَ والتردد. سأظلُّ أقوى من أيّ وقت.. فلي عيالٌ وأهلٌ، ذكرياتٌ وصِيتٌ، وبضعةُ كتبٍ أتباهى بها. …