بعد أن أبتعدت الأمة زمنياً ورسالياً عن رسول الله (ص) وتعاليمه والسياسة العدائية للحكام لأهل البيت عليهم السلام وأتباعهم مع الإختلاط الثقافي والعقائدي مع الشعوب الأخرى ذات الإرث الحضاري الكبير كالفرس والهنود نتيجة التوسع الكبير الذي شهدته الدولة الأموية مع تطور المجتمع المسلم في شتى المجالات مما جعل الإبتلاءات التي يتعرض لها مستحدثة عن ما كان في زمن رسول الله (ص) ، ومع وجود الطغات الذين دعموا مرتزقة العلم والدين مما نتج عن هذا الدعم والإبتعاد عن دين الله القويم مدارس إجتهادية بعيدة عن تعاليم الله القويم كرأي والقياس ، كل هذه الأسباب جعلت الأمة على مفترق طرق أما التمسك بدين الله القويم أو الإنزلاق في متآهات الضلال والإنحراف ، عندها اشرقت علوم محمد وآل محمد صلوات الله عليهم آجمعين لتأخذ بيد الأمة الى بر الأمان ، هذه العلوم التي شعت من الإمام الباقر عليه السلام الذي تصدى للإمامة في عام 95 هجرية من خلال تأسيسه للجامعة الإسلامية الكبرى التي أحتضنت المخالف والموالي والصديق والعدو ، فالجميع كان يغترف من العلوم التي قدمها إمامنا الباقر عليه السلام على الرغم من قوة وطغيان بني أمية ، ولكن إحتياج الأمة لهذه العلوم هو الذي دفع إمامنا الباقر عليه السلام للتصدي في نشر ما تحتاج إليه الأمة في شؤون دينها ودنياها ، فمن هذه الجامعة شعت العلوم على إختلاف ألوانها ومشاربها للمسلمين كافة بل البشرية جمعاء وقد أكد الكاتب المصري عباس محمد العقاد هذه الفكرة عندما قال كل ما لدينا من علوم أما من علي بن ابي طالب مباشرة أو من أحد تلامذته ، وبعد إستشهاد الباقر عليه السلام عام 114 هجرية أستمر الإمام الصادق عليه السلام بنفس النهج في نشر علوم آل محمد صلوات الله عليهم آجمعين للأمة ، فلم تثني الإمام الصادق عليه السلام قوة وطغيان وظلم بني أمية على الرغم من معاصرته لملك خمسة طغاة منهم كملك هشام بن عبد الملك وملك الوليد بن يزيد بن عبد الملك وملك يزيد بن وليد الناقص وملك إبراهيم بن الوليد وملك مروان بن محمد الحمار وقد عاصرة أبيه الباقر عليه السلام من قبل ملك الوليد بن عبد الملك بن مروان ، وملك سلمان بن عبد الملك بن مروان ،وملك عمر بن عبد العزيز ،وملك يزيد بن عبد الملك بن مروان ، وملك هشام بن عبد الملك بن مروان ، أي لقد عاصرة الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام طغيان بني أمية وفي ذروة ظلمهم وتعسفهم وتدلنا هذه الروايات على هذا المعنى ، وهذه بعض الروايات التي تبيين قوة بني أمية وطغيانهم في زمانهم عليهما السلام ، قال السيوطي في تاريخه ( وأمتلأت بلاد المسلمين خلال هذه الحقبة بولاة القمع والجور ، قال عمر بن عبد العزيز : كان الوليد بالشام ، والحجاج بالعراق ، وعثمان بن حيان في الحجاز ، وقرة بن شريك بمصر ، أمتلأت الأرض والله جوراً ….( 1) وقائمة عمال الجور طويلة فيها الكثير من الجلادين سيئي الصيت أمثال : هشام أبن أسماعيل المخزومي ، وعبد الله بن هشام ، وأبراهيم بن هشام ، ومحمد بن هشام ومحمد بن يوسف ، ومحمد بن مروان ، وخالد القسري ، وعبد الرحمن بن الضحاك ، وخالد بن عبد الملك وغيرهم ممن ملأوا الأرض جوراً وفساداً ، قال المسعودي : كان عدّة من قتله الحجاج صبراً سوى من قتل في زحوفه وحروبه مئة ألف وعشرين ألفاً ، منهم سعيد بن جبير ، قتله في سنة 94 هجرية ، وكميل بن زياد النخعي ( وغيرهم كثير من قمم الناسكين والعابدين) وتوفي الحجاج وفي محبسه خمسون ألف رجل ….( 2 ) ، وقد قتل الطاغية هشام بن عبد الملك زيد بن علي عليه السلام عندما ثار عليه عام 121 هجرية….. (3) بل نبش قبره وأخرج جثته وصلبها وأخذ براسه الشريف وطاف به البلدان وعلقه لفترة في مسجد رسول الله (ص) ، كل هذه الروايات دلت على طغيان بني أمية وقوتهم في زمن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام ، وأما الفترة التي عاصرة بها الصادق عليه السلام ملك بني العباس الذي أبتدأ عام 132 هجري لم تكن تختلف كثيراً عن ايام بني أمية بل كانت أشد وأصعب مع أستثناء السنين القليلة من حكم أبو العباس السفاح الذي حكم من عام 132 هجرية الى 136 هجرية…. ( 4) التي أنشغلوا بها في تأسيس دولتهم والتخلص كلياً من بقايا بني أمية وملكهم والإستفادة من العنوان الذي طرحوه في الثورة وهو الرضا من آل محمد صلوات الله عليهم آجمعين ، ولكن بالرغم من كل هذا كانت العيون والجواسيس تحيط بالإمام الصادق عليه السلام ولكنه لم يكترث إليهم واستمر بطرح علومه على الأمة ، وعندما استلم المنصور الدوانيقي الحكم وقد أستتب إليه الأمر كاملة بالترهيب والترغيب فلم يبقى أمامه من الأعداء إلا الإمام الصادق عليه السلام ، فبلرغم من إظهار العداء من قبل أبو جعفر المنصور وهو المعروف بالقتل والظلم والإمام عليه السلام لم يكن يكترث له أو يعيره أي أهمية ويظهر ذلك من خلال هذه الروايات ، عن محمد بن عبد الله العسكري قال : كنت من جملة ندماء المنصور وخواصه وصاحب سره ، دخلت عليه يوماً فرأيته مغتماً وهو يتنفس نفساً بارداً ،فقلت : ما هذه الفكرة يا أبا جعفر ، فقال : لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة وقد بقي سيدهم وإمامهم فقلت له : من ذاك ؟ قال : جعفر بن محمد الصادق ، فقلت له : إنه رجل أنحلته العبادة واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة ، فقال : يا محمد قد علمت إنك تقول بإمامته ولكن الملك عقيم وقد أليت على نفسي أن لا أمسى عشيتي هذه أو أفرغ منه ؟ فأمر بإحضاره وقال للسياف : إذا أنا عملت الحركة الكذائية بيدي فأضرب عنقه ، فدخل الإمام الصادق وهو يحرك شفتيه كأن يتلو شيئا فلما رآه المنصور رحب به وأعتنقه وأجلسه على سريره وقال له : يا ابن رسول الله ما الذي جاء بك في هذه الساعة ؟ فقال الإمام : جئتك طاعة لك ، فقال المنصور : ما دعوتك والغلط من الرسول ، فقال الإمام : لا تدعوني لغير شغل ثم قام وأنصرف …..(5) ، وفي رواية أخرى إذ استدعى المنصور قوماً من الأعاجم لا يفهمون شيئا ولا يعقلون وكانوا من الملحدين الذين لا يعرفون أي شيء ، فألبسهم الملابس الفاخرة وأعطاهم المال وقال للمترجم أن يقول لهم : أن لي عدوا يدخل عليّ في هذه الليلة فأقتلوه إذا دخل، فأدخلوا أسلحتهم ووقفوا كما أمرهم ، وفي الليل أستدعى المنصور جعفراً عليه السلام فدخل الإمام ولما رأوه تعاووا عوي الكلب ورموا أسلحتهم وخروا سجدا وقال له ما جاء بك ، فقال الإمام : أنت ، فقال له أرجع راشداً على بيتك ….( 6) ، ثم قال المنصور للمترجم أن يسأل هولاء ، لماذا لم يقتلوه ، فقالوا : نقتل ولينا الذي يلقانا كل يوم ويدبر أمرنا كما يدبر الرجل ولده .
ومن خلال هذه الروايات نستخلص إن الإمام الصادق عليه السلام لم يعر أي أهمية للحكومات الجائرة التي كانت تحكم بالنار والحديد ولم يكترث بها بل كان كل إهتمامه أن ينشر علوم آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين في الأمة حتى يتمم حلقات الرسالة المحمدية السمحاء التي تحتاج لها الأمة بل الإنسانية جمعاء من فقه وأدب وعقائد وتفسير وغيرها من العلوم الإلهية السمحاء ، وقد قال الإمام الصادق عليه السلام كما قال جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للناس جميع ما تحتاج إليه)…( 7) ، لهذا فأن قول إظهار الإمام الصادق عليه السلام لعلوم آل محمد صلوات الله عليهم بسبب ضعف الملوك الذين كانوا يحكمون في زمانه ، هذا جفاء للإمام عليه السلام وإنما كان طرح العلوم بسبب إحتياج الأمة له وهذا الطرح يعتبر حلقة مهمة من حلقات الرسالة المحمدية السمحاء ، وهذه الحلقات لا تتأثر بقوة أو ضعف الملوك وإنما تطرح حسب تواقيت إلهية تتوافق مع إحتياج الناس لها كما هو في الرسالات السماوية ، وفي عام 148 هجرية قام المنصور الدوانيقي بدس السم للإمام الصادق عليه السلام فودع الدنيا مسموماً مظلوماً بعد أن ملء الدنيا بعلومه وأدابه وأخلاقه ، فسلام عليه يوم ولد ويوم أستشهد مسموما ويوم يبعث حيا .
(1) تاريخ الخلفاء – للسيوطي ص223(2) الكنى والألقاب – للشيخ عباس القمي ج1ص259(3) المسائل الجارودية – الشيخ المفيد ص3(4) العقد المنير – السيد موسى الحسيني المازندراني ص233(5) بحار الأنوار – العلامة المجلسي ج47 ص302 الرواية 42 (6) جلاء العيون ج3 باب 9 الفصل الثاني (7) الإمام الصادق (ع) – عبد الحليم الجندي ص367، تحرير الأحكام – العلامة الحلي ج5 ص166