حين أرى حفيدتي وهي في شهرها الثالث، تتقيأ الحليب الذي زاد عن حاجتها، وحفيدي الذي يكبرها بثلاث سنوات لا يأكلُ الّا القليل القليل، والطعامُ وفيرٌ يختاره هو. أقولُ : حين أرى الظاهرة هذه أتمزّقُ وأنا أرى وأقرأ عن كثير من الأطفال الذين لا يحصلون على كفايتهم من الطعام. مشاهدُ تؤذيني ، بيدَ أنّي اصرُّ على رؤيتها وسماع أخبارها. صورةُ الرجل الذي طارت أطرافُه حين فجرّوا المطعم قبل أن يُنهي طعامه، الصغيرةُ التي ذبوحها جوارَ أمّها وظلّ صراخها يُنادي ربّها. جثث ُ المغدورين تستقبلهم مياهُ البحر وهي غاضبة. الطفلُ المُتسوّلُ الذي يفتحُ فاهُ معلناً عن جوعه.
كم جبانةٌ أنا، كم ضعيفةٌ، عيناي تُبصران، اذناي تسمعان، يداي قويّتان، قدماي تسحبانني نحو المكتبة، نحو السوق، الى الشوارع التي أقطعُها ماشية ، مُتتبعةً نصائح طبيبتي. لمَ لمْ أفعلْ لأولئك المظلومين شيئاً، لمَ لمْ أمنع الظلمَ قبل وقوعه، لم لمْ اشبعِ الجائع وأكسُ العاري ، أهيءْ سقفاً لمَنْ لا سقفَ له؟
أقولُ: ليتني قادرةٌ على فعل هذا . تُعذبني الأسئلةُ وأنا افرغُ بقايا طعامي في كيس النفايات وأغسلُ الصحون. تتلكأ ُ يدي وهي تفعلُ هذا.
أعتدتُ على فتح النوافذ ، بخاصة في أشهر الصيف. دخلت ذبابةٌ كبيرة ، ظلت تحومُ حولنا، أراد ابني مطاردتها لاخراجها من النافذة، قلتُ له: أتركها… ما دخلت بيتنا الّا وهي تفتقدُ أشياء لم تجدها في الخارج. هي كينونةٌ حيّة ٌ لا ندري كيف تشعرُ وهي تلجأ الينا. أجابني: لو كان نصفُ العالم يُفكّرُ مثلك لفقد الظلمُ نصفه .
سألني: لو أنّ داعشيّاً دخل بيتك ، كيف تتعاملين معه وهو ينوي سلبك ثمّ يُملي شروطه عليك؟
لن أفتح بابي لمَنْ يؤذي البشريّة ويذلّ الأخرَ.
أليست الذبابةُ تؤذي وهي تقفُ على القاذورات وتنقلُ الأذى لمَنْ تقفُ عليه او على طعامه؟
لقد غلبتنيّ أيها الأبنُ البار . لا أستطيعُ معارضتك في مثل هذه الحالة.
انني ألعنُ هذا الصمتَ الجبان وسط عالم من الظلم واللاعدل، والإبادة والخراب وزرع الرعب في قلوب الأطفال والكبار. أفتّشُ عن دمعة تُريحني… حتى هنا وجدتُ عيني تخونني ، لا.. لم تخني عيني يوماً ، انها مثلي أتعبها سيلُ ما نزفت ولم تحصدْ ربحاً.
وطنٌ أضاعوه فضعنا معه.