22 نوفمبر، 2024 2:14 م
Search
Close this search box.

خسائر العرب الكبرى !!

خسائر العرب الكبرى !!

الانسان لا يولد من الفراغ و لا ينتهي الى فراغ، والترابط العضوي بين الأجيال يجعل كل انسان جزء من ظاهره , وموضوعا” لها في نفس الوقت, لأنه حلقه في سلسله شعاعية الاتجاه تبدأ به و لا تنتهي بنهايته, فطبيعة العلاقة بين الانسان ووسائل الإنتاج , والتنافس على الموارد  هي من تحدد منظومة القيم الأخلاقية, وعندما يضاف لها العامل الروحي تصبح القيم  مؤدلجه باطار تلعب قداسته دور المستقطب الحيوي لسلوكه العام.
تَولَّد في الوعي العربي ومن بين الكثير من الأيديولوجيات الإصلاحية ثنائية العقل والنهضة، فما ان يستحوذ العقل على سلطة حكم الواقع حتى ينهض العرب من السبات، وبما ان العقل غائب طوال عشرات القرون، إذا” تبقى نكهة الحضارة غائبه عن حوارية المستقبل في الوعي العربي ، كما ترسخ لدى الكثير من النخب العربية في بداية القرن العشرين  ان العقل لا يحكم الواقع الا وفق أيديولوجيا سواء يساريه او دينيه , ومعضلة العرب مع الأيديولوجيا هي انهم غير قادرين على منح العقل سلطة حكم الأيديولوجيا, وربما هذا استنساخ بريء لعقدة الحوار بين العقل والنص الديني, والتي لازالت تكلس الوعي والى زمن غير منظور. فالأيدولوجيا يجب ان تحكم العقل ويجب ان تنتج النهضة، هذه خلاصة ادبيات النظريات الدينية واليسارية في بداية القرن العشرين.
أوريا بعد حروبها الطويلة عززت ثقتها بنفسها , واكتسبت عقلا” ابداعيا” طموحا” في الاكتشاف والتحليل بعد تهشيمها لجدار الطبقة السرطانية المتمثلة في الاقطاع , التي كانت تتوزع الأدوار  في قيادة المجتمع حسب الصلات العائلية والقرب من مراكز القرار, حيث وجد العقل نفسه يحارب على جبهات متعددة اشدها ضراوة كان  التأويل المسيحي للفضيلة, والخير والشر في بناء العالم, والذي كان يطالب المسيحيين بالقناعة والقبول بالقليل وبالصير مهما كان, مومنيا” التابعين  بنعيم الغفران وجنات المسيح.
واجه العقل الأوربي تحديا كبيرا” تمثل في منظومة القيم الاجتماعية التي لا تمنح العقل أي قدره على النقد والتحليل فخاض حروبا” كبيره تناسب حجم الانجازات التي حققها، فنجح العقل الأوربي في استمالة الجماهير واقناعها بقوته في تحقيق المعنى الإنساني، فرغم الاضرار الجانبية في المجال الأخلاقي الا انه استطاع ان يجعل نفسه المرجع الأساسي في التقييم والبناء.
كان العقل القومي أحد النتائج الرائعة التي افرزتها الثورة الصناعية وبلورة الطبقة البرجوازية التي استدعى تصريف بضائعها انتاج عامل جامع تمثل في البعد القومي، الذي وضفته البرجوازية في حماية مصالحها في الخارج، فتراكمت جهود اوربا التي كانت متنافره في توحد غير مسبوق امام الأمم الأخرى فازدادت قوتها في نهب خيرات الأمم وانتشرت المستعمرات التي كان العقل القومي الأوربي يتجسد في بنيتها البرغماتية رغم العداء القديم بين أمم اوربا.
بعد النجاح الباهر الذي حققته البرجوازية الأوربية في الازدهار الاقتصادي بدأت ملامح العقل العلمي في الظهور، وبدأ الانسان الأوربي يسخر من قصص الجن والعفاريت التي تتحكم في مصير الانسان، وأصبح يحلل الواقع باليات جازمه في الحسم، خاصة بعد تطور العلوم التجريبية والرياضيات والتي أحرقت الاف السنين من عبادة الأوهام والسخافات، فأخضع الطبيعة والمعرفة لمناهج جديده تبلورت بعد جهود الاف المغامرين والعلماء البواسل, فمنهم من جعل نفسه أداة لاختبار مصل طبي, او علاج لمرض مستعصي.
 
وصل العقل الأوربي المرحلة الحاسمة في تكوينه وهي صياغة العقل البنائي او المبتكر لفاعليه استثنائية في حشد التصورات لنهضه مغايره للتراث الاوربي، حيث بدأت مفاهيم حقوق الانسان وحرية الافراد وحقوق المرأة والطفل…الخ، تتبلور في هذا العقل الهائل، رافق ذلك تطور مذهل في علائق الإنتاج ,حيث بدأ الانسان يتحول الى منظومه قيميه تنظم اطرفها استقطابات المصالح وطبيعة الإنتاج, فظهرت علوم كثيره تعالج المشاكل المعاصرة مثل علوم النفس, والحياة والمجتمع, بحيث انغرست بشكل قاطع بدايات نهضة الإنسانية.
في الوطن العربي سواء قبل او بعد الاستقلال لم تتبلور بشكل واضح أي ممارسات تشبه التدفق المذهل للشعب الأوربي في التغيير، حيث ان الطبقة البرجوازية لم تنشأ نتيجة تفاعل قوى الإنتاج او تطور داخلي لأليات النمو التقليدي بين المجتمع وقواه المحركة ,بل هو استزراع غير منظم من قبل منتفعين في الخارج انتج شتاتا” معظم قياداته الفكرية متخلفة في قراءة الواقع او على الأقل لا تملك  رغبة في الموائمة بين الواقع والوافد الغربي في اطاره المنهجي, فكان اغلب رموز الإصلاح اما تابع غير مبتكر لأليات التوصيف والممارسة او عميل لا يشعر بألم الامه التي غرقت في الرمال من 14 قرنا”.
انتج تفاعل البرجوازية العربية في علائقها مع الناتج التاريخي عقلا” استهلاكيا”، كسولا”، غير مكترث، يميل للعزلة والتنعم بالبحبوحة الاقتصادية التي حصل عليها بوكالته لشركات الغرب المستعمرة للشعوب العربية بدون أي ضمير، حتى القيادات ذات المنظور القومي او اليساري فهي اما وقعت في تناقضات اطارها المنهجي او انتهجت برغماتية غاية في الانحطاط لتمزيق الخصوم، كما حدث في العراق مع عبد الكريم قاسم في تقريبه للشيوعيين او حتى المنظومات الفكرية التي كثيرا” منها فشل في تبرير مناهجها فلسفيا”.
وقع العقل العربي ضحية لخسارة الطبقة البرجوازية لمعركتها في بلورة مشروعها الحضاري, وبدون ان نمر على الفشل الريادي في مشاريع النهضة, تجلى العجز الوراثي العربي في توظيف مقتنيات الغرب التي كانت موجوده تحت يد القيادات العربية, فهذه الطبقة استغرقت في تنعمها بمباهج السلطة فلم تشعر بحاجه الى ابتكار قيم جديده او منظومه ثقافيه تكسر ركام العته التاريخي في التوريث المريض للوعي, حيث لم تستطع الطبقة المتعلمة مع الطبقة البرجوازية من تكوين العقل البنائي , بل الأسوأ ,فقد استمالت الطبقة البرجوازية الرموز التقليدية في المجتمع كرجال الدين او رؤساء القبائل واغرتهم بالأموال والنظريات, الى درجة ان هذه الرموز استبسلت في تبرير النهج الملتوي والمنحرف لرجل السياسة البرجوازي, فتم وضع الفتوى تحت ابط السياسي, والولاء العشائري أيضا اصبح  طبيعيا” ان يورثه السياسي  او حتى يبيعه لمن يدفع.
 
لعبت الطبقة البرجوازية في الوطن العربي دورا هداما” , حيث عملت على ترويج البضاعة الأجنبية التي تعمل في وكالتها على حساب بناء وتنشيط الإنتاج الوطني فلم تسمح وبالتعاون مع السياسي في بناء منظومه انتاجيه تحدد هويه صناعيه للبلد, فأنتج روحا” مُخدَره لا تملك العقل القومي الذي أوصل اوربا في مستعمراتها الى الازدهار, فاختلقت الطبقة البرجوازية والمنتفعة الحروب العربية البينية كطريقه لشد العقل الجماهيري القطري حول الالغياركيه ( القلة) المسيطرة على البلد, حتى ان هناك دولا” عربيه كانت تعمل في السر مع أمريكا او إسرائيل ضد دول عربيه أخرى لا لشي سوى انها ترى فيها مصدرا لتهديد الحكم السياسي القبلي.
وبما ان العقل العربي لم تنمو فيه البرجوازية النافعة, ولا العقل القومي ولا العقل البنائي فطبيعيا” ان لا ينمو العقل العلمي في المجتمع العربي, لأنه نتاج الحاجه في التسويق التجاري  وتقليل الكلف, ومادامت وسائل الإنتاج العربي في يد السياسي المنتفع والغربي البراغماتي, انفصلت غريزة البحث العلمي عن المجتمع العربي واصبح من ينادي بالتطور العلمي كمن يطالب باحتلال القمر, لان الطبيعة الاستهلاكية للنخب  لا تولد الإحساس بالتنافس الذي يخلق مشاعر الوطنية, وأصبحت الجماهير عاريه من منظومة قيم متطورة لافتقادها عوامل انضاج هذه المنظومة, فخسر العرب العقل البنائي والقومي والعلمي دفعة واحده.
ان أي مشروع نهضوي يهدف الى نقل الواقع المر الى حالة انفراج لا يمكن ان ينجح مالم يمر بالمراحل الطبيعية لنمو النهضة، فالتجربة الصينية المعدلة، وتجارب دول شرق اسيا تدفع المحلل الى القطع بأن علائق الإنتاج وطبيعته هي العنصر الحاسم في بلورة أي فكره طموحه في التجديد الحضاري، وان الحالمين بعودة التاريخ لا تعفيهم منا مشاعر الشفقة من تحمل وزر اسر الامه في يوتوبيا مزيفه تعيش في اذهانهم فقط ولا يمكن إعادة بعثها من جديد.
ان أي حضارة في الكون تنتج من تبرعم وتناغم عوامل معينه تجعل من فكرة التمدد والازدهار لمجموعه بشريه ممكنه، ولا يمكن باي حال من الأحوال استنساخ عوامل النجاح سواء جغرافيا او زمنيا”، وان الدولة الإسلامية لم تندثر بسبب خطا بشري، وانما اندثارها هو النضوب الطبيعي للمنتج الحضاري لعوامل تكوينها، وان من يؤمن بنفخ الروح في الموتى كمن يريد ان يحول الحلم الى واقع على يد (سرفانتس) وسيف (دون كيشوت) المعقوف.
[email protected]

أحدث المقالات