قوله تعالى: مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون… صم بكم عمي فهم لا يرجعون… أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين… يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير.
أشار الله تعالى في الآيات آنفة الذكر إلى الحالة التي وصل المنافقون إليها، وبينها بطريقة تلامس المشاعر الإنسانية دون أن تعزب عن أصحاب الفهم الساذج عند النظر إلى تركيب الجمل وتناسقها الذي أنزله منزلة الأمثال التي يظهر في تفاصيلها إظهار المعاني بصورتها الدلالية، وأنت خبير بأن القرآن الكريم لم يأت بالأمثال ابتداءً وإنما أثارها وذلك لتداولها قبل عصر التنزيل أو نستطيع القول إن تلك الأمثال لم تكن من العلوم الحديثة أو الآداب غير المألوفة لديهم وإنما كان اهتمام الناس بها كما هو الحال في الشعر والنثر أو الحكم والقصص وما إلى ذلك، ومن هنا فهي تأخذ بعداً واسعاً يتشعب إلى طرق مختلفة تكاد تكون مصاديقها تقترب من الأفهام دون عناء يذكر باعتبار أنها تبين ما كانت دلالته المعنوية بعيدة عن الخيال وذلك لتضمنها التشابه الذي يربط بين الأوصاف المؤثرة في القلوب عند انتقال المطلوب من المعاني الخارجية إلى الصور الحسية وصولاً إلى تطابقها مع المكاشفات الناتجة عن المقدمات الحقيقية وتقريبها إلى الناس إضافة إلى أنها تحمل في طبيعتها مجموعة من الاشتراكات الإرثية التي تظهر من خلالها هوية البيئة التي يخرج منها المثل فضلاً عن سهولة انتشارها وجزالة ألفاظها في آن واحد دون أن تجانب درجات الحكمة التي يمكن تسييرها من مكان إلى آخر، وهذا ما دل عليه معنى الضرب الذي يراد منه السير، كما في قوله تعالى: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله) المزمل 20. أي يسيرون في الأرض، ولهذا فقد كثر استعمال الأمثال في الكتب التي أنزلها الله تعالى وذلك لتقريب الغيبيات التي ليس بمقدور الإنسان الاطلاع عليها أو الوصول إلى فهم مراد الله تعالى منها وكذا تعذر الحواس عن إدراك كنهها. ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن) القتال 15. وقريب منه الرعد 35.
وبناءً على ما تقدم نصل إلى أن الأمثال التي ضربها الله تعالى للمنافقين لا يراد منها إلا تقريب ما تكنه صدورهم دون أن يطغى ذلك على أفعالهم ولهذا جعل الله تعالى هذه الطريقة كاشفة لنهجهم الذي يريدون من خلاله خداع النبي (ص) ومن هو على طريقته من المؤمنين فقال سبحانه: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون… صم بكم عمي فهم لا يرجعون) البقرة 17- 18. أي إن الطريقة التي اتخذوها في إظهار الإيمان وإبطان الكفر لا يمكن لها البقاء لأنها كمثل الذي استوقد ناراً أي طلب إيقاد النار وعندما أضاءت له جميع الجوانب المحيطة به وأخذ يستدل بنورها ذهب الله تعالى بنورهم لسبب من الأسباب الخارجية قبل الانتفاع بها أو بنورها فأصبحت لم تف بشروط الإضاءة الحقيقية وذلك لعدم مفارقتها للسبل الجائرة التي ابتعدت عن المؤثرات الفاعلة التي
تمكنها من البقاء والاستقامة، لأن هذا النور ليس له حقيقة وإنما هو نور مصطنع ومؤقت وزائل بزوال مؤثره وقد لا يثبت كثيراً أمام الدلائل الكاشفة له. وعند البحث عن معاني المثل يظهر أن إذهاب النور يتضمن هتك ستر المنافق وكشف الخفايا التي كان يظن لها الاستمرار والبقاء معتمداً على إظهاره للإيمان وإبطانه للكفر وقد يستفاد هذا من إطلاق لفظ النور لكل من كان يعتقد بصحة أساليب هؤلاء، ولا تزال هذه السنّة جارية إلى اليوم ومن هنا ترى بعض الناس قد خدعوا بأمثال أولئك الذين أصبح النفاق لا ينفك عنهم ثم تبين لهم العكس، ولا يمكن أن ننسب ذلك لملكاتهم وإنما للكشف الذي يقابل نهجهم الذي ساروا عليه، وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله: (كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله) المائدة 64.
من هنا يمكن أن نفهم السبب في اجتماع النار والنور على الحالة التي سلبت من المنافقين حتى تراهم في بحث مستمر عن النور الذي فقدوه دون أن يحصلوا عليه في الدنيا أو الآخرة وهذا ما يظهر من توسلهم في طلبه من المؤمنين بعد هذه النشأة، وقد بين الله تعالى ذلك في قوله: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) الحديد 13. والآية تجمع بين الحقيقة والتوبيخ كما في قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) الدخان 49.
ثم انتقل القرآن الكريم إلى المثل الثاني الذي بيّن ما وصلوا إليه بطريقة أخرى فقال: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين… يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيءٍ قدير) البقرة 19- 20. والمراد من المثلين حالة واحدة تجعل المتلقي يختار ما يتناسب وفهمه أو مدى إدراكه لبيان أوصافهم أو أن الثاني معطوف على الأول وأو هنا بمعنى الواو، كما في قوله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) الصافات 147. وكذا قوله: (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً) الإنسان 24. وقوله: (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين) النساء 135. وعند اعتماد هذا النهج يكون المثل الثاني قد عطف على الأول ومن هنا يظهر أن حالتهم أو صفتهم كصفة أصحاب صيب، والصيب هو المطر الذي يكون مصاحباً بالظلمات والرعد والبرق ولهذا يجعلون أصابعهم في آذانهم ظناً منهم أن هذه الطريقة قد تبعد عنهم الخطر والموت، ويمكن معرفة ذلك من قوله تعالى: (حذر الموت) وأنت خبير من أن هذا النهج يكون أقرب إلى الأوهام التي اعتادوا عليها وأرادوا من خلالها خداع النبي (ص) ومن اتبعه من المؤمنين كما أسلفنا، ولذا قال تعالى: (والله محيط بالكافرين) أي إنه قادر على أن يرسل عليهم الموت وبمختلف الطرق والأسباب، ثم قال: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) لشدة لمعانه التي تؤثر في عين الناظر، وقوله: (كلما أضاء لهم مشوا فيه) فيه إشارة إلى حصولهم المؤقت على بعض ما كانوا يتمنونه، ولهذا عقب تعالى بقوله: (وإذا أظلم عليهم قاموا) وذلك عند تقطع الأسباب بهم دون الوصول إلى مبتغاهم، وهذا تمثيل لما كانوا عليه من الحيرة والتردد وكذا القلق المحيط بهم في تلك الأجواء المصاحبة لهم حتى أصبحوا بين أمرين إما الاستمرار في نهجهم وإما الوقوف في الظلام الذي يقيّد حركتهم، ثم قال تعالى: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم) فلا يدركون الحوادث التي تحيط بهم من جهة السمع، وقوله: (وأبصارهم) أي لا يمكن لهم أن يبصروا الطريق المؤدي إلى أغراضهم، ثم ختم الله تعالى ما بينه من أمرهم بقوله: (إن الله على كل شيء قدير) أي إن الله تعالى قادر على كشف الطرق الجائرة التي اتبعوها أو إنزال العقوبة السريعة التي تناسب ما هم فيه.
فإن قيل: ما وجه المقابلة بين قوله: (مشوا) وقوله: (قاموا) باعتبار أن القيام يكون مسبوقاً بالجلوس دون المشي؟ أقول: ورد لفظ القيام في المثل الثاني بدلاً من الوقوف وذلك لتضمنه معنى الثبات زائداً الحيرة
وهذا المعنى لا يتحقق في الوقوف لعدم تحقق المفاجأة فيه. فإن قيل: كيف يجعلون أصابعهم في آذانهم وهل أن الأصابع على طولها يمكن لها الدخول في الآذان؟ أقول: أطلق الحق سبحانه في هذه الآية الكل وأراد به الجزء… أي يجعلون أطراف أصابعهم وهذا كثير في القرآن الكريم وقد أشرنا إليه في مناسبات سابقة، ويكون هذا النهج أكثر بياناً في قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا) المائدة 38. ولا يراد من الحكم قطع اليد بكاملها، وقد يطلق القرآن الكريم الجزء ويريد به الكل، كما في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً) الإسراء 78. وقرآن الفجر يراد منه صلاة الفجر فأطلق الجزء وأراد الكل.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن