في عام 1600 قبل الميلاد انهارت جمهورية (أخيل)، البطل الأسطوري، واندثرت معها حضارة مدينة ماسيني العظيمة التي انجبت بعد انهيارها أعظم حضارتين في الكون أثينا واسبرطه، اختفى فجأة تراثهم العظيم الذي اختزل فيه الاغريق الزمن في قوة البصيرة في ثراء التجارب وفلسفة الحياة كأروع ما تكون، فأنتجوا مالا يخطر على بال في ذلك الزمن من الات وسفن وانسجه وفنون. يقولو هوميروس ان المدينة التي أرسلت أكثر من ألف سفينة بقيادة (أخيل) لاسترداد الأميرة هيلين بعد اختطافها من قبل (بإرس) ملك طروادة اختفت واختفى معها سر لم ينكشف الا بعد أكثر من 3 الاف سنه.
كتب الكاهن اكولان في عام 657 ق.م الى اشور بأنيبال اخر ملوك الإمبراطورية الأشورية (لم يعد للمزارعين محاصيل على الاطلاق وأصبحوا يواجهون مصير مجهول) كانت هذه الرسالة نبوءة ونعي مبكر لانهيار أعظم امبراطورية في التاريخ، فرغم كل ما كتبه العلماء عن سر انهيار الإمبراطورية الأشورية مثل توينبي وادم شنايدر وغيرهم، ضل سر انهيار هذه الامه العظيمة غامضا”.
ظهر علم تفسير سقوط الحضارات بتغير المناخ حديثا” ولكنه لم يكتسب طابعه الاكاديمي المقبول الا عندما افتتحت كل من جامعتي (ييل ) و (كولمبيا) في الولايات المتحدة في العقد الأخير من القرن العشرين اقساما” خاصه بدارسة التراث الإنساني اعتمادا” على عدة علوم في ان واحد كالاركيلوجيا والانثروبولوجيا. حيث توصل العلماء الى ان انهيار الحضارة المايسينيه كان سببه التغير المناخي.
استخدم الباحث (هارفي فايس) التقارير الاركيولوجيه للمتحجرات في الكهوف والانهار والبحيرات في تتبع طبيعة المناخ الذي رافق نشوء وانهيار حضارات عديده، وفي دراسته حول نشوء وانهيار الحضارة الأكادية التي استمرت مئة سنه، يقول هارفي ان درجة الحرارة ارتفعت فجأة في سنة 2200 ق.م في بلاد الشام ارض اكاد وسرجون الأكدى، فهجر الناس المدن وتفرقوا في الافاق بسبب الحرارة الشديدة وجفاف الموارد.
أن من اغرب الدراسات الحديثة، هو توصل العلماء مثل بيتر ديمينوكال من جامعة كولومبيا الى ان التغير المناخي ليس مؤثرا” في نشوء وانهيار الحضارات فقط وانما أيضا” يؤثر في نمو الخبرات العقلية وتطور استعمال الآلات المعقدة، حيث لاحظ ان هناك فترات تاريخيه تسارع فيها نمو المعرفة البشرية واختراع الآلات بشكل مدهش في أماكن محدده تجمعت فيها مجموعه من خصائص المناخ.
يقول (ريك بوتس) من معهد (سمثو سونيان) ان هناك قفزتين تطوريتين هائلتين احدثتا كل ما بين أيدينا اليوم من ازدهار تقني وعلمي، ويرجع سبب حدوثهما الى تغير مناخي كبير بحيث جعلت الانسان في مواجهه مباشره للتكيف مع عوامل عديده في نفس الوقت وليس عامل الجفاف والبرودة فقط. يدعم هذا الاستنتاج الدكتور (مارك ماسلين) حيث يقول بان هناك ادلة مؤكده تم الحصول عليها في وسط افريقيا، على ان التغير المناخي قبل ثلاثة ملايين سنه أحدث تغييرا” هائلا” في البيئة بحيث دفعت الانسان الى المشي منتصبا بعد ان كان يتسلق بأربعة اقدام.
أكتشف (جيرالد هوج) الباحث السويسري مع فريق عمل جامعة (ييل ) ان هناك ترابطا قويا بين مناخ شمال الأطلسي وطبيعة جريان النهرين العظيمين دجله والفرات, حيث اكتشف ان درجة حرارة مياه شمال الأطلسي انخفضت في نفس الفترة التي انهارت فيها الحضارة الأكادية, إذْ من المعروف ان المياه الباردة تقلل من فرص تساقط الامطار, والاغرب من ذلك ان هذا التغير في المسارات الجوية لم يؤثر على حضارة واحده, بل شمل حضارات عديده لم يخطر على بال احد ان يكون تغير المناخ بدرجه حراريه واحده يسقطها ويبقي سر اندثارها مجهولا”.
ان زيادة نسبة بخار الماء في الجو نتيجة تزايد نسبة ثاني أوكسيد الكاربون يسبب اختلال كبير في التوازن البيئي , وهو ما يسمى بالاحتباس الحراري, وتزداد وطأة هذا الاختلال في دول جنوب الكره الأرضية العاجزة عن التعامل مع مشكله ليس لهم يد في صناعتها, فالدول الغربية بأنانيها و بمصانعها ودخان سياراتها انتجت مشكلة كبيره لم تعاني منها لحد الان , حيث تمثلت في تلوث الجو و تغير في المناخ وارتفاع درجات الحرارة , والذي له عواقب لا يمكن التنبؤ كليا بقساوة وطأتها على الأرض.
يتحمل الانسان مسؤولية وجوده على كوكب الأرض، بعد ان أصبح مصيره يتهدد بالهزات الأرضية والانهيارات والحرائق وأصبح انتشار الامراض والأوبئة وانهيار المدن تهدد التراث الإنساني المتمثل بالمسارح والجامعات ومراكز العبادة والمكتبات وغيرها، حيث أصبحت الكوارث البيئية ورغم التقدم التكنولوجي الهائل تهدد مصير الانسان أكثر من الحروب، لان الانبعاثات الغازية لها دور تسلسلي في تغيير المزاج البشري وعلاقة المجتمعات ببعضها، حيث تتميز المناطق الحارة بسهولة اثارة النزاعات واشعال الحروب بينها اكثر من المناطق الباردة.
تتميز الدول العربية الفقيرة بحضها السيء في وقوعها على مسار مناخي قاحل لا يترك لها خيارات متعددة، حيث يعتقد العلماء ان الإنتاج الزراعي في الشرق الأوسط وافريقيا سينخفض بشكل مرعب في منتصف هذا القرن لانخفاض خصوبة التربة وندرة مياه السقي، وسيدفع الجفاف العديد من الدول العربية الى طابور المساعدات الدولية التي لن تكون بنفس سخائها الحالي.
تقوم نظرية الحتمية البيئية على ان البيئة (المناخ) هي التي تصنع الانسان سواء في مفهوم كمفوشيوس في سلطة المكان على الوعي وفلسفة البقاء او تعدد مظاهر التكيف، فمثلا” عندما يعيش الانسان قريب من البحر تنمو لديه عضلات الصدر اكثر من الارجل على العكس من رجل الجبل الذي تتحمل اقدامه اوزان كبيره في التسلق والانحدار , وهذا يتحول في تكيف الوعي والسلوك حسب البيئة والمناخ وبالتالي إنسانية الانسان سوف تخضع لمحددات بيئية ومناخيه كبيره, يظن الكثيرين انها نتاج تفاعل الوحي السماوي مع العقل فقط.
يقسم ابن خلدون الجغرافيا الى سبعة أقاليم، ويجعل الإقليم الثالث والرابع والخامس مثالا” للاعتدال سواء في طباع البشر الذين يسكنون فيها او في الألوان، وميز كل إقليم بطباع اهله، حيث يقول بأن شعوب السودان تتميز بميلهم للطرب والطيش وخلوهم من قوة التمسك بالعقائد، اما الإقليم الثاني فيتميز اهله بالتوحش وبعدهم عن الإنسانية واعتقد انه يعني قبائل افريقيا الجنوبية. اما افلاطون فيرى ان اهل اوربا ذات المناخ البارد يتميزون بالشجاعة والبسالة في المواجهة ولكنهم في زمنه غير ماهرين في الإدارة والتنظيم وبالتالي يفتقدون الى إمكانية السيطرة على الأمم الأخرى، ويبدو واضحا الفرق في حكم افلاطون القديم حول شعوب اوربا والتي أصبحت على عكس ما يقول تماما” فهم الان سادة الأرض. اما تشارلز دارون فقد دفع وحي نظرية الحتمية التاريخية نظرية النشوء والارتقاء الى الامام بحماس رغم كل عيوبها المنطقية والأخلاقية.
عندما سرق الانسان النار من السماء كانت اللمسة الأولى في تغيير المناخ، فقد أحدثت النار تغييرا” هائلا” في الانسان وانتج منها ما لا يمكن حصره من الشر والخير، لقد اوغل كثيرا” في قطع أطراف امه الأرض وعبث في زجاجة السماء ولكنه أنتج ذاتا” مبهره في الحيوية والعطاء والحضارة , فحضاراته كانت تركع ذليلة ومرات تموت بلا رأفه امام غضب المطر وقوة العواصف, ولكنه تراكم في عمق معرفته بأن حضارته زائله لا محاله ان لم يهادن السماء والأرض وان يكف عن تملق السماء بعجزه عن التفسير والتحليل وانه يجب ان يطيع الله كما اطاع موسى ربه على الجبل.
[email protected]