ان محاكمة الأحداث التاريخية الكبرى دون إستحضار الظروف الموضوعية التي أنتجتها والملابسات التي إكتنفتها تفضي الى احكام فاسدة لاتطمس الحقيقة وحدها بل وتنزع عن التاريخ وظيفته الأساسية كمحرك ومرشد على طريق المستقبل.
لقد كتب على الحقبة التي أفرزت حكومة المالكي الثانية في العام 2010 ان تتعرض الى قراءات متجنية قفزت على الوقائع التي أنشأتها لتكريس معالم الإنقلاب على النظام الديمقراطي والقاء تبعات المسؤولية التاريخية عن ذلك على الضحايا لا الجلادين.
ان محاكمة أمينة لأحداث هذه الحقبة، التي مثلت انقلابا مشرعنا على النظام الديمقراطي في العراق، تقدم اختبارا جادا لمدى قدرة شعار الاصلاحات على المساس بجذور الفساد السياسي والقضائي التي رعت ظاهرة الإنقلاب واوجدت حاضنة لجميع اشكال الفساد الاخرى وخاصرة رخوة تضرب منها المجاميع الارهابية والجرمية، كما ان محاكمة هذه الحقبة وثقافتها الإنقلابية، تفتح الطريق الى كشف جميع رموزها ومحاسبتهم قياسا بحجم الفساد الذي تسببوا به وهو لايقل جسامة ورعبا عن إرث النظام السابق حيث انتهى الى التفريط بنصف مساحة البلاد، وتشريد الملايين من أهلها ، اضافة الى عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين والعسكريين، واهانة المؤسسة العسكرية، وزيادة حدة الانقسام المجتمعي والإستقطاب السياسي، وتعاظم التدخل الاجنبي في البلاد، والتفرد بالسلطة، وما كان ذلك ليحصل لولا استغلال امكانات الدولة واستنزاف مواردها لتكريس النفوذ الجهوي والحزبي، وحماية الانقلاب بالقوة.
ان ماعرف تاليا ب (تنازل) إئتلاف العراقية وزعيمه اياد علاوي عن استحقاقهما الدستوري والانتخابي في تشكيل الحكومة آنذاك انما هو تجميل لحقيقة اغتصاب السلطة مدعوما بمئة الف جندي امريكي على الاراضي العراقية، ومليون عنصر مسلح من الميليشيا الخاضعة للأوامر الايرانية، منع وبالإكراه الرئيس طالباني من تسليم كتاب التكليف لمرشح الكتلة الاكبر اياد علاوي، وأفضى الى ابتزاز القضاء، تحت التهديد والإغراء، لاقحام تفسير غريب على مفهوم الكتلة الاكبر، لم يؤخذ به في اي من ديمقراطيات العالم الاخرى او دكتاتورياتها.
لقد جعل الواقع الجديد العراقية وزعيمها في مواجهة تحديات صعبة أولها الامتناع عن اضفاء الشرعية على الانقلاب والاتجاه صوب معارضته بكل السبل الدستورية، لكن خيار علاوي وبعضا من اعضاء كتلته هذا للتعامل مع الاحداث اصطدم بالخشية من تعميق الانقسام الاجتماعي وجر البلاد الى إتون حرب اهلية من جهة وتخاذل اطراف من العراقية وطمع اخرى بالسلطة من جهة ثانية.
ان وضع هذه القضية على طاولة التشريح مجددا وبالتزامن مع المطالب الجماهيرية بدولة مدنية عابرة للطائفية وخالية من الفساد يزيح الستار عن حجم تآمر بعض القوى السياسية الطائفية، بدعم اقليمي ودولي، للحيلولة دون التأسيس لهذه الدولة الوطنية التي تهيأت ظروف قيامها بعد انتخابات 2010، كما يبرئ الزعامة المدنية التاريخية لاياد علاوي من تهمة التخاذل او التنصل عن ثوابتها الوطنية التي حظيت بثقة العراقيين ، بعدما رفض العمل بالسلطة التنفيذية ودعا العراقية الى الوقوف بصفوف المعارضة ،ويعري ايضا محاولات القوى الانتهازية لركوب موجة الاحتجاجات الشعبية الراهنة واعادة انتاج سلطة فاسدة بعد حرف المظاهرات عن مساراتها النبيلة في نشدان العدل والحرية والمساواة ، حيث نجحت هذه القوى من قبل، وضمن تصفية حساباتها المستمرة مع الفصائل الوطنية، من تصوير الانقلاب المذكور ليبدو شكلا من التوافق السياسي على السلطة، وقد بلغ هذا المخطط بعضا من اهدافه بخلق فجوة مع قطاع مهم من الجمهور الذي كان بعيدا عن كواليس المؤامرة، وغير مدرك لحجم وقوة المنخرطين بها، وانعدام الخيارات البناءة للرجل ازاءها.
اذن فالمهادنة التي فرضها واقع ميزان القوى على الارض انذاك لاتعبر عن الإذعان للقوة او الإقرار بشرعيتها، وهي لم تكن مهادنه بمعناها الحرفي اذ كان هنا اصرار من علاوي وزملائه على المضي قدماً في التصدي للطائفية السياسية والدعوة لدولة المواطنة التي تقوم على العدل والمساواة، متعرضاً لمخاطر عديدة وجدية ، وفرض الارادة الوطنية الخيرة، وهو ماتعبر عنه اليوم انتفاضة شعبنا المطالبة بدولة مدنية وطنية كان علاوي ولايزال احد اهم دعاتها وقادتها والمتصدين لها