في صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958 ميلادي كان العراق على موعد مع حدث كبير ، حدث غير المعادلة السياسية والاجتماعية القائمة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 ميلادي ، وفتح بوابة أمل جديدة لفقرائه ومعدوميه الذين سحقتهم الفاقة والعوز في ظل نظام غابت عنه العدالة الاجتماعية ، يقف على قمة هرمه البرجوازية الرأسمالية والإقطاع ، مورست فيه الطبقية بأبشع صورها .. في صبيحة هذا اليوم الخالد كان العراق على موعد مع ثورة امتزجت فيها الإرادة الوطنية لمجموعة من الضباط الأحرار يقف على رأسهم الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم مع طموحات وتطلعات شعب كان ينشد العدالة والحرية والعيش الكريم ، في ظل حالة من الغليان الجماهيري لم تكن بمنأى عما يدور حولها في المحيط العربي من أحداث سياسية وتحركات شعبية مطالبة بتغيير الواقع السيئ الذي كانت تعيشه تلك الجماهير في ظل حكومات وملكيات كانت تتهم بعمالتها وتبعيتها للمستعمر الأجنبي ، فكان العراق جزء من هذا الحراك وساحة لعملية تغيير كانت أغلبية الشعب العراقي بحاجة ماسة إليه نتيجة لعوامل داخلية عديدة منها ..( الفقر والجهل والحرمات ، غياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات ، التبعية المقيتة للنظام الحاكم آنذاك للمحتل البريطاني ، ربط العراق بمعاهدات والتزامات كبلت يداه عن التصرف بقراره السياسي وموارده الاقتصادية مثل النفط لصالح بريطانية والتي كان آخرها حلف بغداد الذي انشأ بإرادة بريطانية عام 1955 ، هيمنة الشركات الأجنبية على الاقتصاد العراقي وبالأخص شركات النفط ، ربط العراق بالكتلة الإسترلينية مما أدى إلى تراجع الدينار العراقي وحدوث تضخم وغلاء للأسعار ) .. وقد أورد الكثير من المؤرخين والباحثين أسباب أخرى لا تقل أهمية عن الذي ذكر ومنهم الدكتور علي الوردي الذي عزا الأسباب الرئيسية للثورة إلى استهتار السلطة الحاكمة بمفهوم الديمقراطية وتزويرها للانتخابات ، واضطهادها للحركات والشخصيات الوطنية، واحتقارها للشعب وتعطيلها للدستور وبهذا يقول ..( ان جلاوزة العراق، ومن لف لفهم من المتزلفين وأنصاف المتعلمين ينظرون إلى الشعب الفقير نظرة ملؤها الاحتقار والاستصغار ولعلهم لا يشعرون بهذا الاحتقار الذي يكنّونه لأبناء الشعب، إذ هو كامن أغوار نفوسهم، اللاشعور من أنفسهم ، فهم ينساقون به وقد لا يعرفون مأتاه أحياناً ).
ويذكر الكاتب والباحث مجيد خدوري في كتابه (العراق المستقل من 1932 إلى 1958 ) .. رواية للشاعر الكبير محمد مهدي ألجواهري حين كان نائبا ، في إشارة إلى حالة التزوير والاستهتار اللتان كانتا سائدتان في ذلك الوقت بقوله ..( لقد وقف نوري السعيد ذات يوم وقد ضاق صدره من هذا المعارض أو ذاك ليقول بالحرف الواحد … هل بالإمكان أناشدكم الله، أن يخرج أحدنا مهما كانت منزلته في البلاد، ومهما كانت خدماته في الدولة، ما لم تأت الحكومة وترشحه؟
فأنا أراهن كل شخص يدعي بمركزه ووطنيته، فليستقيل الآن ويخرج، ونعيد الانتخاب، ولا ندخله في قائمة الحكومة، ونرى هل هذا النائب الرفيع المنزلة الذي وراءه ما وراءه من المؤيدين يستطيع أن يخرج نائباً .. ويضيف ألجواهري … هكذا كانت الأوضاع في العراق وهكذا كانت الديمقراطية ، ولا شك إن أوضاعاً كهذه لا بد أن تخلق حالة من الكبت الجماهيري الذي يبحث عن مفجر ).
وأما المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني فقد ذكر سببا مهم آخر للثورة ، أدى إلى أزياد حنق الجماهير على النظام الملكي وحكوماته .. وهو التمييز الطائفي والعنصري بحق الأغلبية الشيعية في العراق حيث يورد في كتابه (تاريخ الوزارات) مذكرة للملك فيصل الأول موجهة الى الحكومة والنخب السياسية تبين البعد الطائفي والعنصري للنظام الذي كان قائما انذاك ، يقول فيها ..( أن العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسَسَة على أنقاض الحكم العثماني وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً.. وأكثرية شيعية منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة إلا إن الاضطهادات كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين .. ويخاطب الملك النخبة السياسية قائلاً … أخشى أن أتهم بالمبالغة، لكنه من واجبي أن لا أدع شيئاً يخامرني، خاصة لعلمي بأنه سوف لا يقرأ هذا إلا نفر قليل، ممن يعلمون واجباتهم ومسؤولياتهم ولا أرغب أن أبرر موقف الأكثرية الجاهلة من الشيعة ، وأنقل ما سمعته ألوف المرات، وسمعه غيري من الذين يلقون في أذهان أولئك المساكين البسطاء من الأقوال التي تهيجهم، وتثير ضغائنهم، إن الضرائب على الشيعي، والموت على الشيعي، والمناصب للسني .. ما الذي هو للشيعي؟
حتى أيامه الدينية لا اعتبار لها، ويضربون الأمثلة على ذلك، مما لا لزوم لذكره) انتهى كلام فيصل الأول .
على الرغم من كثرة الأسباب الداخلية لثورة 14 تموز المجيدة وأهميتها وخطورتها ، إلا إن هنالك بعض الأسباب الإقليمية فرضت نفسها على الساحة السياسية العراقية وبقوة ، كون العراق جزء حيوي ومهم من محيطه العربي والإقليمي ومن الطبيعي ان يتأثر بما يدور من حوله من أحداث وتجاذبات ومنها الحركات التحررية والثورات والانقلابات العسكرية ، وحروب وانتكاسات في المشهد السياسي العربي أثرت عليه بشكل أو بآخر ومنها .. ( نكبة فلسطين وقيام دولة إسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني بموافقة الحكومات الرجعية العملية ، هزيمة العرب في حرب 1948 مع إسرائيل ، ثورة 1952 في مصر على النظام الملكي ، ثورة 1948 في اليمن ضد حكم الإمام بقيادة الضابط اليمني العراقي الأصل جمال جميل ، العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وموقف الحكومات العربية الرجعية منه ) . كل هذه الأسباب وغيرها الكثير هي التي دعت الزعيم عبد الكريم قاسم الى التحرك للإطاحة بالنظام الملكي وحكوماته الرجعية وإعلان الجمهورية الخالدة كما اسماها هو ، جمهورية الفقراء والمهمشين ، بثورة اكتسبت شرعيتها من تعاطف ومؤازرة الجماهير لها وبقوة والتفاعل مع أحداثها التي لا يمكن لأحد أن ينكر حدوث بعض الأخطاء التي شابتها وبالأخص ما يتعلق بمصير العائلة المالكة والنهاية المأساوية التي لاقوها على يد بعض المندسين والمحسوبين على الثورة ومنهم عبد السلام عارف الذي افتخر أمام والده تاجر القماش الحاج محمد عارف ..(بأنه عليه أن يفتخر به لأنه حقق له حلمه بأبادة العائلة المالكة في العراق )..أو إلى بعض الضباط الذين قادهم التحمس الشديد للثورة الى ارتكاب مثل هكذا عمل مشين كان أول الرافضين له قائد الثورة عبد الكريم قاسم الذي كان يرى ان يتم استنساخ التجربة المصرية في التعامل مع الأسرة المالكة في العراق بعد الثورة ، وهذا ما تقرر تنفيذه إلى ان هنالك جناح آخر داخل قادتها كان يرى في تصفيتهم الحل الأمثل لوجود ارتباطات وتحالفات عسكرية مع بريطانية تسمح لها بالتدخل وإعادة الملك مرة أخرى لحكم العراق .
وبالرغم من كل هذه الإرهاصات والمنغصات إلى ان الثورة قد حدثت وأحدثت التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي بفترة زمنية قصيرة جدا شهد فيها العراق نقلات نوعية وعلى جميع الأصعدة ، وتحقق جزء كبير من العدالة الاجتماعية التي غابت عن مجتمعنا ، ونال فقراء العراق ومحروميه بعضا من الإنصاف والرعاية وتنفسوا الصعداء في ظل زعامة وطنية جعلت من تقدم وازدهار ورفاهية العراق وشعبه هدفا لها ، فأنجزت في خمس سنين ما عجزت الحكومات المتعاقبة على حكم العراق منذ تأسيسه عام 1921 ولغاية الآن عن انجازه ، يحدوا بها شعورها بالمسئولية التاريخية الملقاة على عاتقها اتجاه أبناء هذا الوطن محاولة رفع الظلم والحيف عنهم والذي لازمهم لقرون طويلة ..فاصدر قائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم مجموعة من القوانين على الصعيدين السياسي والاقتصادي وضعت العراق على الطريق الصحيح ومنها .. ( قانون استثمار النفط رقم 80 لعام 1961 والذي أثار حفيظة بريطانيا وشركاتها الاحتكارية وبموجبه أوقفت عمليات تنقيب واستثمار آبار نفط جديدة في العراق ، إصداره قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 والذي أعاد بموجبه توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين الفقراء والقضاء على النظام الإقطاعي البغيض ، إخراج العراق من حلف بغداد ، تحرير العملة الوطنية من الارتباط بالإسترليني ) .. إضافة إلى قيامه ببناء بيوت للفقراء وتوزيع الأراضي السكنية عليهم ممن كانوا يسكنون العشوائيات على أطراف بغداد القديمة في (الشاكرية والميزرة ) بقوله ..( سيخلد اسمي التاريخ وأنني بنيت 35 ألف دار لفقراء العراق في عمر الثورة ) .
كل هذه الانجازات والتحولات الايجابية في المشهد العراقي أثارت حفيظة الكثيرين داخل العراق وخارجه فتآمروا على الثورة وأطاحوا بها بانقلاب شباط الأسود عام 1963 .. لتتطوى صفحة مشرقة من تاريخ العراق الحديث لازالت الذاكرة الجمعية لفقرائه تحتفظ بها وتستذكرها بحسرة وأمتنان ، هذه المرحلة الفريدة والتي أصبح من الصعوبة أذا لم يكن من المستحيل استعادتها أو ظهور حالة مشابهة لها .