جعل الله تعالى في الأعمال التي يقوم بها الأنبياء مجموعة من المؤشرات يجب الأخذ بها وعدم الإلحاد عنها حتى تكون هذه المؤشرات أشبه بالبوابة الأولى لدخول الإنسان إلى النظام الإصلاحي الذي نادى به أولئك الأنبياء، ولهذا فإن من يدعو الناس إلى هذا النظام عليه أن يراعي الفترة التي يعيش فيها، ومدى تأثيرها في نفوس الآخرين، ومثالاً على ذلك لو رجعنا إلى ما كان يطرح من تفسير في الأعصار السابقة نجد أن خطوطه الثانوية لا تستقيم قبال المنهج الإلزامي الذي نقف عليه في عصرنا هذا اللهم إلا ما توافقت عليه المشتركات البلاغية والأدبية، إضافة إلى منهج التأسيس الذي لا يطرأ عليه اختلاف مهما تبدلت الأحوال، وإن شئت فقل منهج المسلمات الذي يصلح لجميع الأوقات مالم يظهر دليل على خلافه.
أمّا ما ينبغي الأخذ به من مستجدات العصر في نظر الدين علينا أن نجد له التحليل الذي يناسب تفكيرنا الجمعي لكي تستمر الرسالة المنهجية بما يتناسب ومقتضى الحال والمتطلبات الآنية، وبنفس الوقت يجب أن لا نغفل السبق الرباني الذي أعده الله تعالى للأنبياء (عليهم السلام) وكيف أن هذا السبق كان يفوق الخيال العلمي كما في صريح القرآن الكريم، وكيف مكن لهم الله تعالى في الأرض وآتاهم من كل ما سألوه، كما ورد ذلك على لسان سليمان في قول الحق سبحانه: (قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب) ص 35. وعند تأملنا في هذا الشأن أكثر نجد أن آل داود قد هيأ لهم تعالى ما يفوق العلم الحديث حتى وصل الأمر إلى تسخير الريح والجن كما ورد ذلك في قوله: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير) سبأ 12. ولم يسلب الله تعالى اختيار سليمان في تسخير الريح على الرغم من أن الأمر كان بإذنه (جل شأنه) ولذلك قال عز من قائل: (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب) ص 36.
إضافة إلى تعليمهم منطق الطير كما في قوله: (وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين) النمل 16. فإن قيل: إلى من يعود
ضمير الجمع؟ أقول: يعود إلى سليمان ومن سار على نهجه من آله أو المقربين له. وهذا التسخير الإلهي الذي وهبه الله تعالى لأوليائه لا يمكن أن نمر عليه ونحن معرضون عنه، بل الأفضل أن نجعله أقرب إلى الدليل العلمي الذي يشهد على ما يجري في عصرنا، وإن شئت فقل لا بد من جعله العنوان الكبير الذي فتح الله تعالى رموزه في الأرض حتى تأخذ زخرفها إلى قيام الساعة كما في قوله سبحانه: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) يونس 24.
وبناءً على ما تقدم نحصل على مجموعة من الحقائق التي غفلها المفسرون، أو ربما تطرقوا إليها ولكن بما يناسب عصر كل واحد منهم، ومثالاً على ذلك تلك الإرشادات القيمة التي قدمها يوسف (عليه السلام) للذَين دخلا معه السجن، وقد ذكر تعالى هذا الأمر في قوله: (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي) يوسف 37. والظاهر من سياق الآية الكريمة أن يوسف كان ينظّر إلى أمر غاية في الأهمية من خلال تقديمه لهما فوائد الغذاء ومضاره والطرق التي يجب أن تتبع في تناول كل وجبة منه، وما شابه ذلك من المنهج السليم الذي بينه لهما، وهذا ظاهر في قوله: “إلا نبأتكما بتأويله” حيث إن التأويل هو إرجاع الشيء إلى أصله، وهذا ما جرى في تلك المحاورة، لأن القرآن الكريم يرشدنا في كل مقطع من مقاطعه إلى ما فيه صلاح ديننا ودنيانا، ولا يمكن أن نمر على ما ذكر فيه من قصص ثم ننسبها إلى تأويلات ساذجة لا تتصل بحياتنا بأي شكل من الأشكال. فإن قيل: هذا مردود بقوله: (قبل أن يأتيكما)..؟ أقول: هنا تكمن الفوائد حتى يأخذا بها وبنفس الوقت يتجنبا المضار وهذا ما أكده بقوله: (ذلكما مما علمني ربي).
وما فعله يوسف نجده قد حصل مع عيسى (عليه السلام) وذلك في قوله لبني إسرائيل: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) آل عمران 49. وما توحي به هذه الآية الكريمة أشبه بالتعليمات التي أراد عيسى أن يجعلها حاضرة بين أيديهم ولا يمكن أن نجعل الآية جامدة على الإعجاز الغيبي وإن كانت متضمنة له.
من هنا يظهر أن الأنبياء لم يغفلوا الجانب الإرشادي المتمثل في الغذاء والأخذ بمنافعه وتجنب مضاره، ولذلك فإن الدين حث الإنسان على الاهتمام بالاقتصاد والمعاملة بين الناس في البيع
وتجنب الربا ليحصل الإنسان على غذاء طاهر وسليم، وهذا هو الطريق المستقيم الذي يربط الوسائل بغاياتها وصولاً إلى الله تعالى. وخير دليل على ما قدمنا ما نقله القرآن الكريم على لسان أصحاب الكهف في قوله تعالى: (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاماً فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحداً) الكهف 19.
وقولهم: “أزكى طعاماً” وهم بأمس الحاجة إلى ما يسد الجوع الذي هم فيه دليل على الالتزام بالطرق الشرعية التي أرادوا بواسطتها أن يحصلوا على طعام طاهر. ومع كل هذه الأهمية التي بينها القرآن الكريم للطعام نجده يصور لنا جانباً مهماً وموقفاً رائعاً يدلل على إيثار أولياء الله تعالى بأهم مقومات حياتهم الناتجة عن الطعام بل وفي وقت يصعب فيه تعويض ذلك الطعام وكيف أنهم آثروا المساكين واليتامى والأسرى على أنفسهم كما قال جل شأنه: (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً… إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً) الإنسان 8- 9. وفي الآيتين مباحث:
المبحث الأول: الضمير في “على حبه” يعود للطعام أي على حبهم أو مع حبهم للطعام إلا أنهم آثروا المسكين واليتيم والأسير، ويؤيده قوله تعالى: (وآتى المال على حبه) البقرة 177. وكذلك قوله: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران 92. والمقصود هنا المال الذي يعتبر أفضل الوسائل للحصول على الطعام، ولا يمكن أن يعود الضمير على الله تعالى لأن هذا مردود بقوله: (إنما نطعمكم لوجه الله) الإنسان 9. حيث إن الجمع يوجب التكرار.
المبحث الثاني: قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: والواحدي من أصحابنا ذكر في كتابه البسيط أنها نزلت في حق علي (عليه السلام) وصاحب الكشاف من المعتزلة ذكر هذه القصة فروى عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن الحسن والحسين (عليهما السلام) مرضا فعادهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في أناس معه. انتهى. ثم ذكر قصة علي وفاطمة وجاريتهما فضة والقصة طويلة من أرادها فليراجع مفاتيح الغيب.
المبحث الثالث: ذكر القرطبي في الجامع لاحكام القرآن: قال أهل التفسير: نزلت في علي وفاطمة (رضي الله عنهما) وجارية لهما اسمها فضة، ويضيف القرطبي: قلت إنها نزلت في جميع الأبرار ومن فعل فعلاً حسناً فهي عامة. انتهى.
أقول: لا يمكن أن تكون الآية نازلة في جميع الأبرار وإن كان هذا يحتمل الصدق في نفسه، وذلك لأنها وقعت في سياق لا يمكن أن يكون إلا لمصداق واحد متفرع على إطعام من نزلت فيهم للمسكين واليتيم والأسير، ولو سلمنا بصدق من قال إنها نزلت في جميع الأبرار فلا موجب لاتفاق المشار إليهم في واقعة يجمعها تفصيل واحد، وبناءً على هذا يُرجّح اعتماد الروايات التي تواترت في ذكر القصة التي نقلها الفخر الرازي، والتي تغنينا عن الرجوع إلى تفسير الإمامية.