بين الكلام المنظوم ذي الايقاع الموسيقي وبين الشعر المبدع ينتهي الحديث حول الشعر القديم والحديث الى حكم عادل لصالح الشعر كجوهر نقي وابداع انساني يتحدى الزمن.
وفي مرحلة الركود الحضاري والروحي للمجتمع يبرز سؤال: ما قيمة الشعر اذا لم يكن مقلقاً ومتحدياً ومستنفراً للروح والفكر معاً؟
وقد تستدعي الاجابة سؤالاً آخر: لمن يكتب الشاعر اذا كان شعره عصياً على النقد؟
لا شك في ان التجربة الشعرية المتميزة تفرض نفسها على القارئ بخصوصيتها الابداعية واثارتها الشعرية والعوالم التخييلية التي تتغورها وتدخل في اعماقها، واننا في قراءتنا المتواضعة لمجموعة ادهم عادل – نصوصي ليست لكم، بوح الصعاليك – نطالع موهبة شعرية شابة فرضت نفسها بقوة على الساحة الشعرية العراقية بجمالية انتاجها وروعة تشكيلها الفني، و الشاعر ادهم عادل (مواليد 1987) ، من الجيل المعاصر الذين سيساهمون من خلال المعطيات التي بين ايدينا في تطوير المنظور النقدي الجمالي للقصيدة.
قضايا نقدية كثيرة يثيرها في الذهن شعر ادهم عادل، فاللغة الشاعرة تتحول في قصائده الى لغة مفكرة مثقلة بالدلالات الفكرية والفلسفية وبالايحاءات الشعورية التي تتعب القارئ وهو يبحث عن معادل موضوعي لها. ويقع القارئ في حيرة، أهو يقرأ شعراً ام فكراً منظوماً؟
ليس شعر ادهم عادل شعراً أليفاً بل هو لحدة صدقه ووعيه يضع مبدعه في منفى اختاره الشاعر بارادته. انه شعر يتحدى ويقلق قراءه ويطالبهم باتخاذ موقف ودائماً يبدأ التحدي من العنوان:
صعلوك نتن كالتاريخ
الرب ليس بثاً مباشراً
للدين وجه آخر
مو ملحد
عتاب مع الرب
عناوين ليست مألوفة لمجموعة شعرية تحمل مضامين ثائرة تتحدى مخزونك المقدس والمندس و… فالشاعر شاب مثقف وناقد وثائر يعزف على اوتار الروح بسكين وليس بريشة شاعر.
وقد لفت الشاعر انتباهنا من ان (بعض النصوص او القصائد قد تفهم انها ضد الاسلام او الذات الالهية.. وقد تحور بعض النصوص او تفسر لخدمة غرض معين او فكرة معينة) فنصوص الشاعر (دعوة للتفكير وحب الانسان… حتى وان كانت بشعة في بعض الاحيان…) فالشاعر (ليس كافراً ابداً ويحب الله الجميل الرحيم دائماً).
هذا النص لا يصلح ابداً
ولا يتوافق تماماً مع الذين
يخلعون وجوههم للصلاة
ثم يرتدونها للسرقة
هذا النص للاشمئزاز والقرف فقط ص 60
في مجموعة ادهم هذه، تكتنز قصائدها بشجن روحي عميق واحساس باطني بالجراح، الامر الذي يدل على معاناة حقيقية لأزمته في مراحل حياته… ففي بعض قصائدها استبطان لكل ما كشفته ظروف الرياء الديني واستعراض لتفاصيل حياتنا اليومية وتفجير للصمت المكابر في داخلنا… ضد اولئك المرابون المحابون العتاة، اصحاب العمائم..
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
هذه العبارات اراها اعظم مفهوم انساني وديني
للسلام قد ضيقها وهمش دورها الكهنوت وداعية الله ص 9
………
الرب لا يخطئ ابدأ
ولكن ماذا نفعل
وحجارة الكهنوت فوق رؤوسنا ص 11
………
من اهم الشرائح التي تهدد المجتمع
هم المثقفون والمعممون ص 11
نصوصي ليست لكم؟
لمن تكتب اذن؟!
أتكتب لجماهير كثير منها لم يسمع بالمتنبي والمعري، وبعضها الآخر نسي الرصافي والزهاوي.. وانغمس في فرح مشبوه وسطح تفكيره وشعوره ليريح نفسه من عناء مواجهة الواقع؟
شعر ادهم يتطلب ترجيعاً نفسياً بعيداً حتى يصل الى المتلقي.
نصوصي ليست لكم
قصائدي ليست للقصور
تهمني القبور
ليست لفتاة الجامعة
بل لفلاحة الحقل
………
حينما اتذكر جدتي
ساعة الغروب
وهي تضفر
جديلتها البيضاء
وتنعي ولدها الوحيد
الذي قتل
لتشابه اسمه
مع اسم الحلفاء
………
لهذا نصوصي ليست لكم ص 42
حب الوطن وتقديسه، عاطفة فطرية وغريزة طبيعية عند كل انسان، والتغني بمظاهر الجمال فيه من شيم العقلاء والشرفاء والمنتمين… ويتخذ الانتماء الى الاوطان طابع الانتماء اللفظي او العملي الذي يصل الى حد الاستشهاد، والوطن مصدر الشعر اذ يتضن بعض سماته وملامحه وبيئته وبصماتها. فالشعر مرجع لمعرفة البيئة العراقية ويتألق فيه الرب والنبات واسماء المدن والطيور وخصائص الطبيعة وروح الشعب وسماته الخاصة من اقليمية ووطنية وقومية.
ان من يمعن النظر في قصائد الشاعر ادهم يجد ان نظرته للوطن وللحياة فيه نظرة فجائعية فيها من التشويه والتغريب ما يجعلها منفردة للنفس.
شعري عفن كالعروبة
ورائحتي نتنة كالتاريخ
اظافري طويلة ومرعبة
وملابسي قذرة وبلا اكمام
وحينما اتكلم يخرج البصاق
اكثر من الكلمات
وهذا يحدث
كلما تحدثت مع الوطن وجهاً لوجه ص 16 و 17
يغلب على قصائد الشاعر مداليل الاسى والحزن والجراح، مما يدل على ان رؤيته سوداوية للحياة بمجملها، كما تبدى لنا ذلك في اكثر قصائده… فالشعر في هذه المجموعة ليس ليس استثارة عاطفية تمتص
طاقة انفعالية بل هو شعر يحاصر وعيك ويستقطب حواسك ليضعها في مواجهة مستمرة لا تنتهي بانتهاء القصيدة بل يظل صداها عنيفاً مدوياً في ارجاء النفس، ولعل سبب ذلك يعود الى قدرة الشاعر على تنسيق الايقاع بين النبرة الخطابية المنبرية المباشرة التي تميز بها الشعر القديم وبين النبرة الايحائية التي تنفذ الى السرائر من خلال ايقاع القصيدة الداخلي الناتج عن جرس الكلمات المفردة وطاقتها الصوتية واصواتها الخفية.. كقوله:
لا احب الاعتذار ابداً
ولهذا فلن اعتذر عما سأقوله
………
انا اول السكارى المعترضين
وآخر الصعاليك المرسلين
………
اما معجزتي
فأني حينما اسمع آذان المعبد
وقت الفجر
لا اقوم
بل اضع وسادتين فوق رأسي وأنام ص 20 و 21
ان عمق الجراح التي ينكأها شعر ادهم فأنه يبشر بالغد الآتي، لذا فهي قصائد موصولة ببعضها ومقاطع من قصائد لا تتم لأن معاناتنا موصولة والغد الذي يبشر به لم يأت بعد.. وما يلفت الانتباه في هذه القصائد انها تتناسق في وحدة عضوية على اختلاف مضامينها وتنتظم الديوان من اوله الى اخره، رغم ان وعي الشاعر الفكري يغلب حسه الشعري المرهف بسيطاً متواضعاً أليفاً ليقول بعفوية المبدع وكأني به لسان حاله يقول – انه له ولنا وطن من كلام ومأوى مخيف وضنك من العيش عز فيه الرغيف. وحينما يتبعنا النظر في شعره والتفكير في معانيه يستوقفنا ليقول بالدارجة العراقية:
مو ملحد واحب الله
واعرفه بيا كتر موجود
واندله ص 76
………
الله دنيا من الحنين
وآني مفتهمه قصيدة
وعمري ما فتهمته دين
مو شرط ميعرفه كافر
ولا شرط اللي يربي
لحيه يعرفه زين ص 122
………
آنه ضد كل
الجوامع
والكنائس
والمعابد
من تخلي الله تجاره ص 78
………
آنه ضد الدين من يربط
عظمة الله بمنارة ص 78
………
وأحس بالدين مثل الثوب
ظل بكل كتر مفتوك
بديت اصفن واشك بالناس
من شفت اليصلي يبوك
من شفت التزور
جفوف اديها حلوك ص 78
*المجموعة الشعرية
ادهم عادل – نصوصي ليست لكم، بوح الصعاليك، ط 1، دار سطور للنشر والتوزيع، بغداد، 2015.