قلما نسمع من المعدان حكايات عن عهود أباءهم وأجدادهم ، فهم لا يحتفظون بخفايا حياة قديمة بسبب أن حياتهم واضحة ومن دون الغاز ولا تحتاج الى حكواتي يفسرها أو روزخون يقصها ، وعندما وزعنا كتاب التأريخ ولأول مرة على أول دفعة من تلاميذ مدرستنا وصلوا الى الخامس الابتدائي . دخلت تفاصيل حياة أخرى في حياتهم غير حياة قريتهم.
لقد أذهلهم الكتاب بتفاصيل حياة لأناس لم يتخيلوا في يوم ما أنهم سيعرفونهم ، وبسبب كتاب التأريخ الذي صار التلاميذ ينطقون ببعض تفاصيل وقائعه البسيطة امام اباءهم عند عودتهم الى بيوتهم أو ساعة يحضرون الواجب المدرسي حيث كان معلم التاريخ في مدرستنا يؤمن بفرضية أنَ ( الدَرخ ) أي الحفظ على القلب وبصوت عال هو الافضل بالنسبة الى أبناء المعدان .
تبطرت على التلاميذ المساكين ذات يوم عندما غاب معلم التاريخ وكان على معلم الجغرافية ( أنا ) سد الشاغر ، ورحت اتحدث لهم عن تفاصيل تاريخ هذا المكان مع الفرس والروم والقرامطة والزنج والأتراك والانكليز ، ويبدو اني نسيت نفسي ورحت احاضر كما يفعل مدرس في الثانوية امام طلابه ، وكان التلاميذ فاغرين افواههم لا يفقهون من كلامي شيئا ولكن بعضهم ظل يجاهد ليجمع صور التواريخ التي اتحدث عنها امامهم حتى أن النعاس سكن بعضهم حين تاهت في رأسه التفاصيل التي أسردها ويسمعها لأول مرة.
لكن احدها الكلمات وهي ( ترك ) التي كنت اتحدث فيها عن الترك واخبرتهم أنه بسبب شجاعة اجدادكم تركوا مراكبهم هنا وانسحبوا الى ثكناتهم في سوق الشيوخ والناصرية.
ويبدو أن حكاياتي التاريخية قد ترسخت بذاكرة التلميذ ( فرطوس ) وذهب يخبر أبيه الذي انكسر مشحوفه ويحتاج الى قطع خشب واخبره ان المعلم يقول :غير بعيد عن قريتنا توجد مراكب لناس اسمهم الترك غاطسة في الماء ويمكنه الذهاب اليها وجلب الخشب.
في اليوم الثاني أتى والد التلميذ وتقدم اليَّ ليخبرني كما اخبره به ولده إن كان بأمكاني اخباره بمكان المراكب التركية ( الراكسة ) في الهور.
قلت :ا نتم اعلم بها ، انا تحدثت لتلاميذي عن قصص اسمعها ، ولم اشاهدها عدا مركب انكليزي غاطس في نهر (غلوين ) القريب من مدينة سوق الشيوخ.
قال شغاتي لوالد التلميذ: ولماذا لم تأتِ لي وانا ارشدك.
قال الرجل :وما أدراني انك تعرف بمراكب الترك.
قال :جدي اعلمني وانا صبي بمكانها .
من نقاش الرجلين عرفت ان بعض المعدان لديهم تفاصيل لتواريخ المكان ، وحين اتى شغاتي الينا في سمر الليل سألته : عن حكايات جده .؟
اخبرني انه يخشى الحديث عنهم لان لهم رهبة وقساوة اكثر من الانكليز ودائما تكون شواربهم غليظة ويتنصتون الى كل ما يقال ، ويفسرون كل حركة او تمتمة او نظرة بأنه عمل عدائي ضدهم حتى شاع بين المعدان ذلك المثل : لا تبكْ حتى لا يسمعكَ الترك…
الآن الترك بعيدون ، والسلطان ذهب وأتاتورك توفى وبوابات سدود مياه دجلة بيد أردوغان ، وهو صاحب مزاج غريب ، لهذا اتذكر الان روح شغاتي الطيب واكرر مع نقسي مثله :لا تبكْ حتى لا يسمعكَ الترك ، ويمنع أردوغان وصول الماء الى الاهوار……….!