مشكلات الكهرباء في بلدنا من حيث انخفاض ساعات التجهيز وكثرة الانقطاع , ليست وليدة اليوم وإنما يرجع تاريخها إلى ثمانينات القرن الماضي , وقد تفاقمت تداعياتها بعد الحروب ولا تزال أعراضها تزداد يوما بعد يوم , إذ تحولت إلى مرض مزمن ولم تثبت العلاجات القديمة والحديثة جدواها في إراحة الناس من المولدات بآثارها السيئة في التلوث والتكاليف والبقاء لساعات طويلة في كل يوم بدون كهرباء , ورغم إن العراق وضع أوسع خطة علمية وعملية لتطوير الكهرباء بمساعدة المنظمات الدولية لحل المشكلة بكل جوانبها وبدأ تطبيقها سنة 2006 , إلا إن هناك من يسعى لإجهاض هذه الخطة من خلال وضع العديد من المعرقلات فبدأت المناوشات الطائفية التي أعاقت التنفيذ , ثم ظهرت أزمات الوقود التي تركت طوابير السيارات تنتظر لأيام للحصول على الوقود وأعقبها ظهور الأزمة المالية العالمية التي أوجدت مبررا لمجلس النواب لتحويل التخصيصات المالية للكهرباء إلى حوالات الخزينة , ورغم الضائقة المالية للبلد التي أخرت تنفيذ خطة الكهرباء إلا إن التصريحات بخصوص الإنفاق وصلت إلى حدود غير مسبوقة , فمنهم من قال بأنه تم إنفاق 27 مليار دولار في الاستثمار والآخر قال إن الإنفاق تجاوز 37 مليار واغلبهم عاجز عن التمييز بين الاستثمار والتشغيل , وبدلا من ترك الفرصة لانجاز الخطة الجديدة للكهرباء التي كان يقودها وزيرا من التكنوقراط مصيبته انه لم يكن له ظهرا يحميه , فقد أصر البعض على استجوابه في مجلس النواب ولم يستطيع المجلس إدانة أو تبرئة الوزير فترك الأمر من دون قرار , وفي سنة 2010 خرجت تظاهرات في البصرة تطالب بإقالة وزير الكهرباء رغم إن الوزير كان في البصرة قبل انطلاق المظاهرات بأيام لتوفير الكهرباء للبصرة بالذات , وفي وقتها اتصل رئيس مجلس الوزراء بالوزير مستفسرا عن موقف الكهرباء في البصرة فاخبره الأخير بان التجهيز أكثر من ألف ميكا واط , ولكن هناك من ادعى انه لا يتجاوز 600 ميكا واط واخبر الوزير رئيسه إن الأرقام التي يتم إعلانها هي من فريق أرسل من بغداد ليعطي القراءات الدقيقة , وعندما اكتشف البعض إن الموضوع سياسيا أكثر من كونه يتعلق بالكهرباء , اضطر الوزير بتقديم استقالته بعد أن تحولت المظاهرات إلى اشتباكات سالت فيها دماء , وكان من الممكن امتدادها لأكثر من مكان وبشكل قد يجعل الوزارة بموقف صعب فقدمت نفسها كبشا للفداء , ولعل هذا ما إرادته بعض الجهات السياسية التي دعمت المظاهرات ولم تنه الأزمة بعد , ولو استمر الرجل في تنفيذ خططه يضمانة نجاح البرنامج الذي وضع في حينه وبإشراف دولي ومن مؤسسات متخصصة ومسائلته عن النتائج , لتغير الوضع كثيرا ولتجنبنا الخوض في مشاريع بعضها وهمية أو غير مدروسة .
ويتكرر الأمر في هذه الأيام فالبعض من وسائل الإعلام لا شغل يشغلهم غير انقطاع الكهرباء , وينقلون الموضوع وكأنه لا كهرباء في البلد قط , وفي ظل تداول هذه الأخبار توجه الدعوات لتقديم كبش فداء جديد على غرار ما حصل في 2010 , ولا يعني ذلك إن الكهرباء جيدة في هذه الأيام فقد دخلنا في ذروة الأحمال ويتواجد أكثر من 3 ملايين نازح في الخيام والكرفانات والطلبة منشغلين بالامتحانات , ولكن الأمر ليس بالسوء الذي يتداوله البعض , فالكهرباء ليست بمستوى الاحتياج والطموح ولكنها ليست مفقودة تماما , ولا نريد التبرير لوزارة الكهرباء التي ستبقى في دائرة القصور والتقصير والتشكيك إلى أمد غير محدود لان المعالجات الجذرية في توفير كهرباء للمواطن على مدار 24 ساعة يوميا بلا انقطاع لا تزال صعبة المنال , ولكن من الواجب إن يتم فحص الظروف التي تعمل بها الكهرباء من حيث كفاية الإمكانيات المادية والتخصيصات المالية و كفاية الوقود والتأثر بالطاقة المفقودة من محطات ببجي وانخفاض مناسيب المياه الذي يؤثر على التشغيل , وعدم تكامل البنى التحتية من حيث النقل والتوزيع والسيطرة , فالكهرباء صناعة معقدة وليست مثل المولدة المنزلية , وهذه الظروف ليست جديدة بل تتكرر عاما بعد عام دون معالجات , فمعالجة مشكلات الكهرباء لا يأتي من خلال الاتهام والتخوين فحسب وإنما من خلال تفهم ما تعانيه من ظروف والعمل على حلها بشكل جذري لإزاحة هذا الهم الكبير , من دون التستر على محاسبة المقصرين والفاسدين أينما وجدوا ولاية جهة سياسية ينتمون وبأي مقام يكونون , ففي ضوء الحملات الإعلامية التي كان يفترض أن يكرس جزءا منها باتجاه الترشيد والتثقيف , فقد اخذ بعض الناس يعتقدون بان البلد يمتلك إمكانيات لتوفير كامل احتياجات البلد من الكهرباء ولكن ذلك لا يتم لأسباب سياسية , ولهم نقول إن جزءا من هذا الاعتقاد صحيحا لان الأجهزة الفنية والتخصصية تتلوث فعلا بتدخل الجهلة والطارئين والذين يرفعون الشعارات ( الوطنية ) لملأ الجيوب وتعطيل مصالح الناس , ولكن الكهرباء بوضعها الحالي غير قادرة على توفير جميع الاحتياجات بسبب ما ذكر أعلاه, كما إن الذهاب إلى الاستثمار سوف لا يجلب العصا السحرية , فشركات الاستثمار الأجنبية تبحث عن ظروف مثالية لم تتوفر جزءا مهما منها للعاملين من أبناء الوطن في الكهرباء , بعضهم اخبرني بان الحملات الإعلامية التي تتصاعد يوما بعد يوم , فضلا عن كون أغراضها معروفة فان البعض من أسبابها هي التسعيرة التي تبناها وزير الكهرباء والتي تم تأجيلها ولم تلغى لحد الآن , وإلغائها لحين توافر ظروف تطبيقها قد يعيد جزءا من العلاقة الايجابية بين المواطن والكهرباء , أما الجزء الآخر من تلك العلاقة فانه يتكامل من خلال توفير الكهرباء للمواطنين , فالمواطن العراقي لا يهمه من سيكون ( كبش فداء ) القادم لان ما يهمه فعلا أن ينعم بالكهرباء كونه إنسان .