أبي يحب لوحات ديلاراكوا وهذا شيء طبيعي ، لأنه من سكنة أور ، ويوما ما كانت أور سيدة الجهات الأربع ..
أبي يحب أن يقرأ فقط لجان جنيه وفولتير ولامارتين ، ويتمتع حد القهقهة بشاعرية جاك بريفر ، وحين يشعل غليونه الحجري أمي تعرف انه يريد كتابا لروائي من أمريكا اللاتينية ، فتجري مسرعة إلى الرف لتجلب له رواية لفارغاس ، فهو يتمتع بحبكة هذا القاص البيروني حين تغط في دخان تبغه الكردي المعتق . وليلا أبي يحب سماع فاكنر ، ومارشات حروب نابليون ، وحين ينتهي الليل من نصفه الأول يستمع أبي إلى نشرة الأخبار من المونت كارلو ويتناول قطعة جبنة بالدبس ثم يتحرك مثل آمر فيلق إلى فراشه ، يعطس عطستين ثم يغمض عينيه ، ولم اسمع مرة أبي يشخر في منامه .
مات أبي ذات يوم وهو غارق في متعة أخيلة إغريقية حين شحط ( شحطته الأخيرة ) وهو يعيد قراءة قصائد كافافيس بلغتها اليونانية . ولا اعرف أين تعلم والدي لغة إسبرطة وأثينا ؟ ولكنه كان يتحدث حتى بمفرداتها المنقرضة ، وتفاخر أبي ذات يوم بأنه من أنبئ كمال أتاتورك بضرورة التخلص من الأبجدية التركية بنواركيلها المشرقية وسعال ولاتها الأميون وإبدالها بأبجدية لاتينية للتقرب من أوربا ولكنها حد هذه اللحظة لم تلحق بالركب اللاتيني بسبب أزمة عبد الله أوجلان وآذان جوامع اسطنبول.
صار أبي بفضل تقادم الأزمنة ذكرى لوالد طيب مارس طقوسه بصرامة تترية داخل البيت وقرا مالم يقراه غيره .
سافر إلى مدن لا تحصى ، ومارس الغوص في أعمق الشعاب المرجانية وقيل انه تزوج فتيات من جزر القمر والكناري وهونولولو والواق واق ..ولا ادري لماذا أبي يتزوج من نساء الجزر فقط ؟
فيما كنا نعتقد إن في زياراته الباريسية كان يعاشر نساءً بالجملة ولكنه حين يعود إلى أحضان بيتنا السومري نراه ينظر إلى أمي بنظرة اشتهاء كمن لم يذق امرأة منذ ألف عام وكنا نسمع همسهُ الموسيقي على مسامع أمي منتصف الليل كمن يعزف في قيثار غجري كان لوركا قتيل الحب الأسباني يكتب على أنغامه قصائده .
ذات يوم بعد عشرين عاما على رحيل أبي . اخبرني احد الآتين من زيارة لباريس انه شاهد لوحة لأبي على جدران متحف اللوفر مرسومة بعناية فائقة وهو مستلق على أريكة ويقرا في كتاب ومن فمه يتلى غليونا حجريا قاتم السواد ..
قلت : نعم هو غليون أبي . وتساءلت من رسم اللوحة .؟
قال آلاتي من باريس : ديلاركوا نفسه .
فرحت . وذهبت صوب صورة أبي المعلقة في الجدار وكان يرتدي عقالا وبوجه الكئيب المليء بندب الكد والبحث عن الخبز حتى ولو في آخر المجرات . فجأة انتبهت وتساءلت عن أي لوحة كان يتحدث زائر باريس .
فلقد قضى أبي رحمه الله كل حياته لا يعرف حتى التوقيع أو كتابة اسمه فقد كان يبصم ، وكان كلما يشاهد كتابا كبيرا قال : أعطوني إياه لأجعله وسادة فلقد تعبت من البحث عن رزقكم . أكبروا بسرعة واصنعوا كدكم بذراعكم .