23 ديسمبر، 2024 7:13 م

يوميات .. الباب الشرقي/8

يوميات .. الباب الشرقي/8

قامت الأخت الوسطى وذهبت إلى المطبخ، تخبر الكبرى بفعلة سَموأل، حين مسحت على ظهر عبد الحسن بكفّها.

: تعاي شوفي عيني، هاي بعد كلشي ماصاير وحاطّة إيدها على چتفة واتمسدلة مثل البزونة.

: شنو !؟ صدگ تحچین ؟ هاي لعد غير آفة ولفلافة ؟

عبد الحسن في حيرة، لا يدري كيف يقنع أمّه وأخواته باختياره لهذه الفتاة، والتي من المفروض أنها فتاة أحلامه التي انتظرها طويلاً، وبالمقابل فإن هذه الفتاة التي لم يمضِ على معرفتها يوم، لم تعطه فترة استرخاء وتأمل، حتى أن آثار الورم في عينيه لم تزل بعد.

يخاف أن يرفض اندفاعها، ويخاف بنفس الوقت اندفاعها، وفي كل مرّةٍ يُرجع السبب إلى نفسه وبأنه شخص غير مثقف.

: أمچ اشلونها عزيزتي ؟ أبوچ؟

وحين أرادت سَموأل جواب أمّ عبد الحسن ، تدارك عبد الحسن ذلك ونادى بأخته التي في المطبخ: وين صار الچاي خاتون ؟

أجابته أخته ولكن بصوت ضعيف : خاتون بعينك وعين هاي العوبة .. وبصوتٍ مسموع : صار خوية صار، لحظات.

بعد الشاي، طلبت سَموأل من عبد الحسن أن تتجول في البيت لتتعرف على تفاصيله، وبين دهشة أخواته وحيرة أمّه ونظارتها له بمعنى الرفض، ابتسم لها عبد الحسن بحزنٍ وحيرة. فقامت من مقامها وأخذت بيده لتذهب معه إلى الحديقة.

عبد الحسن ينظر إلى أخواته بغباءٍ وتقزم، وهنّ ينظرن إليه باستهجان وعصبية. لكنه قام معها وهو يلّوح إليهن بكفّه من خلفه بصيغة التهديد.

أشعلت سيجارةً وأخذت نفساً وأطلقته.

: عبودي، انتو عائلة جميلة ومثالية، البساطة والبراءة واضحة عليكم، آني جداً سعيدة بيكم.

: شكراً سَموأل، بس التدخين مو مضر بالصحة ؟

: دعني استلّذ باللحظة عزيزي، دعني أعيش الألق في ما أنا أحسّ فيه، لا ضرر أكثر من الجهل، ولا مرض أسوء من قلّة المعرفة.

: أكيد ما تقصديني آني، لأن عيب أتصور.

: لا حبيبي لا، ولاحظ ( انتبهَ لها عبد الحسن ) لاحظ، أنّو أختك دتراقبنة من وراء الستار، وكم يعجبني هذا التصرف البريء.

ضرب عبد الحسن على الشباك ففزّت الأخت وطفرت هاربة، لتخبر أمّها بما شاهدت.

: تعاي عيني أمّ الوَلد، شوفي المفعوصة دتشرب چگاير النوب !

: سكتي مالچ دخل، خليهم براحتهم.

: يعني من كُل عقله حسن، هاي تصير زوجته ؟ صام صام وفطَر على جُرّية، وياريت جُرّيه، هاي چنها أم بريص.

بعد فترة قصيرة استأذنت من عبد الحسن لتنهي الزيارة كونها مرتبطة بموعدٍ مع أصدقاءها في بيت سلام الميكافيلي لمناقشة فعاليات يوم البيتنجان الكوني والذي سيصادف الثلاثاء المقبل.

استغرب عبد الحسن: بيتنجان ؟ صدگ تحچین ؟

: نعم عزيزي، البيتنجان رمز عراقي بامتياز، لونه وطعمه ووفرته، أشياء كثيرة في هذه النبة الأكثر من رائعة تجعلها رمز. تجي تحضر ويّانة ؟

: ليش لا ؟ لأن آني أعرف البيتنجان هو وحش الطاوه وبس، أما بيتنجان كوني، أول مره أسمع وياريت أعرف.

عادت وسلّمت على أخواته وأمّه، وتحملت عصرات الأخوات القاسية وقرصهن لها خفيةً، ثم خرجت مع عبد الحسن وطلبت منه مفاتيح السيارة لتتولى هي القيادة. حين سمعت الأخت الكبرى ذلك عبر فتحة الشباك، أصيبت بحالة إغماء وشلل مؤقتة وسقطت على الأريكة مذعورة.

..

في شقة سلام الميكافيلي بمنطقة البتاوين

.. هلو هلو .. هلو .. هلو هلو..

دخلا غرفةً بعد الصالة الصغيرة ثم جلسا في ركنٍ ضيقٍ انحشرا فيه، بين فرش حديدي صدأ ومكتبة وكتب متناثرة بشكل عشوائي. رائحة الغرفة لم تعجب عبد الحسن، كمية الهواء قليلة، نسبة الرطوبة والحرارة عالية، السقف المصاب بالتقشر ولون الجدران معتم، عدد المتواجدين أكثر من المقاعد المتوفرة، الضوء متذبذب ويصدر أزيزاً واضحاً، صور جيفارا ومارتن لوثر وأم كلثوم معلقة هنا وهناك.

دخل سلام وبيده أقداح وقناني خضراء اللون، لم يرها عبد الحسن من قبل، وبدأت الأصوات تصدح له.

: مرحى، مرحى، هلا بيك هلة، وباللي بيدك هلة.

قال لسَموأل: هذا بيرة مو ؟ وان شاء انتي هم تشربين ؟

: لاء ( اطمأنَّ عبد الحسن وأخذَ نَفساً ) المشورب هسّه ما يوالمني والطبيب ..

قاطعها عبد الحسن : يا طبيب ؟ لحظة خل أفتهم، يعني هسّه مايوالمچ، ليش قبل شاربة وچان موالمچ ؟ ولا تگوليلي لا عليك صديقي، أريد افتهم.

صاح أحد الحاضرين بالجمع المتكلم : سكوت، رجاءاً لحظة سكوت، نريد أن نختار نخباً لنشرب من أجله.

فأجابه من خلفه آخر: نخب الصداقة المعرفية التي تحلّ مشاكل الكون أصدقائي.

أتى الجواب سريعاً .. ألله .. ألله .. ألله .. ما أروع هذا النخب .. ثم ردد أحدهم جملة كُفرٍ وسبٍّ فاضحة.

تلاقت الكؤوس والقناني وأخذوا جرعة من الجعّة، وعبد الحسن في قمّة الإحباط.

قام أحدهم وتوسط الغرفة، استأذن الجميع للشروع في الحديث.

: أصداقائي، يا حَملة المعرفة وهموم هذا البلد الجريح، إنّ العراق يناديكم، والشعب عينه عليكم، إنّ الأمهات حزينات، والشيبة متعبين، والأطفال على أرصفة الوطن تبيع العلچ والحلوى الفاسدة من حرارة الشمس .. أصدقائي، إن ثروات البلد منهوبة، والفاسدون في كل مكان، وعلينا تقع هذه المسؤولية لنتجنب المزيد من الخسائر.

صفق له الحاضرون ثم قام آخر.

: الحرب قائمة، قُدّاسات الموت لا تنتهي، داعش تحتل مساحات كبيرة من بلدنا العزيز، النازحون يأنّون، أطفالهم لا ينامون، الحرب يا أصدقائي تنخر ببلدي، ببلدي ( تكوّر على نفسه وجلس ولم يزل يردد ) ببلدي، ببلدي.

صفق له الحضور كذلك، ثم قام سلام وبيده قنينة جعّة، ولاقى ترحيباً أكثر من اللَذين خطبا قبله.

: أصدقائي، أشكر لطف ما ذكرتم، لكني أرى كل الذي ذكرتموه هو شعارات، عاطفة، لكن، علينا دراسة الحلول، ووضع الخطط لإنقاذ ما يمكن انقاذه .. صفق الحضور وأثنوا على ما قال، ثم استرسل .. إن جُلّ مشاكلنا تتمثل بأن طبقة واسعة من الناس لم تطلع بعد على مشروع الجينوم البشري، ولم تقرأ كتب ريتشارد دوكناز، أو قصة الفسلفة وقصة الحضارة لويل ديورانت .. قاطعه أحد الحضور منفعلاً .. يمعود آني أعرف ناس ليهسّة ما قارية قواعد العشق الأربعون، يعني معقولة أكو هيچ تخلف ؟ .. فأجابه سلام .. نعم، بإمكانكم أن تتخيلوا مدى الجهل الذي يعيشيه أغلب المجتمع، ونحن إذ رمزنا لفعاليتنا بالبيتنجان، إنما لنناغم عقول أولئك السذّج والبسطاء علّهم يتقربون من معرفتنا ..

في الأثناء سأل عبد الحسن سَموأل وبصوت منخفض خوفاً من أن يقاطع الخطيب الذي لا يعرف ردّة فعله.

: قواعد الإيش الأربعون گال الاستاذ ؟

: قواعد العشق الأربعون، كتاب خرافي وأكثر من رائع.

سرح عبد الحسن مع نفسه، وفي خياله خاطر ..

” هو آني إذا راح أتزوج، أحتاج قواعد العشق الأربعون، لو قواعد تحت اللحاف الأربعون ؟ الله وين جابني هاي ؟ هذوله صدگ، چذب هيچ يحچون ؟ بالعباس مال هسّة أخابر صديقي اللي ويّة سرايا غضب السماء ويجون يعلسوهم كلهم ” .. وفي هذه الأثناء صاح به الخطيب : أنت ! مارأيك.

فزّ عبد الحسن وأجاب بتلقائية : دُمبلة !

يتبع

خاص بكتابات
[email protected]