5 نوفمبر، 2024 10:52 ص
Search
Close this search box.

مريم وغبار الزقورات

مريم وغبار الزقورات

أن لم تكن الطفولة ، فماذا كان هناك قديما ولم يعد له وجود
سان جون بيرس
أرسلت أبنتي مريم 4 سنوات الى روضة الاطفال الألمانية التي لا تبعد عن بيتنا سوى عشرين مترا لأسجلها كأول يوم دراسي في غربتها ، كانت مريم داخل البيت لا تتعلم سوى العربية حتى انها لا تنصت الى اخوانها الكبار حين يتناقشون باللغة الالمانية التي يجيدونها تماما.
كانت تنتبه الى كلامي وكلام امها وهو ما نتبادله بالعربية فقط ، لهذا اكتسب لسانها جميع المفردات الجلفية التي نتكلم بها داخل البيت.
أول يوم لمريم في رياض الأطفال وكان الدوام في الساعة الثامنة ، أتصلت المديرة وقالت مريم بدأت تبكي لتجيء امها او ابيها ليقضيان معها بقية النهار حتى تتعود على الاطفال معها وكانوا من مختلف جنسيات العالم ، حتى لتشعر أن الطفل في المانيا الذي لا يحتاج ليذهب الى نيويورك ليدخل مبنى الامم المتحدة ليشاهد سفراء العالم كله ، فهنا يجلس الطفل الالماني الى جانب الصومالي والكوبي والسوري والايطالي والبولوني والأفغاني والطفل التاميلي الذي هجرت والديه الحرب الاهلية في سيرلانكا.
في اليوم الثاني بكت مريم في العاشرة ، اتصلت المديرة فذهبت انا لأجالسها حتى نهاية الدوام ، وفي اليوم الثالث بكت مريم في الثانية عشر ، فذهبت امها لتجالسها ، وفي اليوم الرابع لم تتصل المديرة وهذا يعني أن مريم لم تعد تستوحش الدوام في الروضة واصبحت لديها صديقة البانية مسلمة واخرى اوكرانية من كييف والثالثة اسمها ماريا من أثينا ، فيما صديقتها الرابعة هي لمياء من مزارع شبعا في الجنوب اللبناني.
وهكذا بعد شهر بدأت مريم تتهجى المفردة الالمانية بوعي ولم يمرعام حتى اصبحت تتحدث بطلاقة كل مفردة المانية تسمعها وتحفظها.
روضة مريم عبارة عن فردوس صغير حدائقه واراجيحه والعابه وغرف نوم الصغار لحظة يداهمهم النعاس هي من بعض تفاصيل حكايات الف ليلة ولكنها الان بشكل حقيقي ، فيما حنان المعلمات تشعره اكثر تطورا من حنان امهات الاطفال الحقيقيات بالرغم ان حنان الام يبقى الاجمل لأنها لا اتأخذ مقابله معاشا فيما حنان معلمات الروضة بمعاش شهري.
ذات يوم ذهبت انا وامها لحضور حفل تخرج مريم من الروضة لتذهب بعد عطلة الصف الى الصف الأول الابتدائي ، وأنا على بوابة الروضة حيث الاطفال بصفين وبثياب ملائكية بيض وبأجنحة .
تذكرت القراءة الخلدونية التي كانت تشعر تلاميذ ابناء المعدان في مدرستنا بفرح غريب عندما يبدأون تهجي حرف كلمة دار ، ويسألون عن معنى قزاز ، والذكي فيهم  يسأل معلمه : لماذا يقف البعير على التل ولا تقف الجاموسة؟
تتجمع الدموع في العيون ، فالقراءات الخلدونية هناك تعاني من العطش ونقص الفيتامين في الجسد والتهجير وفرح القصابين لانهم عرفوا أن الفرات شح ماءه ولن يمنح الاهوار الماءَ وسيضطر المعدان بيع جواميسهم بسعر بخسٍ.
المفاجأة الثانية كانت قرب بوابة الروضة هي انهم اختاروا اقتراحي حين اجتمعوا بأولياء الأمور وارادوا من كل منا فكرة تجسد شيئا من بلده على ان نرسمها على كارتون مع شرح عنها . وحينها رسمتُ لمريم زقورة أور وتحتها شروحات تواريخها وغايتها ، فكانت المفاجأة ان الزقورة هي من اختيرت هذا العالم وكانوا قد صنعوا سلالمها من الخشب المغطى بالورد الحقيقي وشاهدت مصور جريدة المدينة يصورها باندهاش وتحتها كتبوا عبارة مطرزة بالورد ايضا وبخط مريم ابنتي وبالألمانية (Diese Zikkurat Ibrahim ) . وترجمتها (هذه زقورة أبراهيم).
مع الفرح والدموع وتصفيق الصغار لانهم عرفوا أن القادم هو من اختيرت فكرته تذكرت اطفال مدرستنا يوم اخذناهم بسفرة مدرسية وبالباص الفولفو الخشبي الى زقورة اور.
ابتهج الاطفال ، وصعدوا الزقورة وارادوا ان يلمسوا الغيوم من فرحهم .لكن في العودة التصق بثياب كل واحد منهم طن من التراب…!

أحدث المقالات

أحدث المقالات