الانكسار الذي احدثته الثقافة الرأسمالية في المجتمع العربي, وظهور ثقافة (الهوتدوغ) والماكدونلاد جعلت المثقف العربي في حالة اغتراب مزمنة عن البيئة التي انتجته, وطعنته في العمق الاخلاقي لنتاجه التاريخي , حيث جردته الأنظمة العربية من الكرامة العلمية وحولته الى كيان غريب يخشى الجميع الاقتراب منه, لاهتمام اجهزة المخابرات العربية بتفاصيل حياته, فأجلسته المقاهي وركنته خارج التاريخ, ثم ابدلته بجيوش من انصاف المثقفين وشبه المتعلمين, وجعلتهم يحللون الواقع, ويمارسون الفعل الثقافي, بوصوليه لا حدود لها, فنتجت ثقافه تمجد السلطان وتعبد الملك, فأُنزِلت القيمه الثقافية بمستوى احذية ضباط المخابرات .
عملت الأنظمة العربية بكل خبث على تخريب العلاقة بين المثقف والمجتمع، وتصوير الثقافة كمتغير مدّنِس للقيم والدين، فانعزل المثقف في زاوية ضيقه. لعبت عوامل كثيره في تحجيم دور المثقف التنويري المسؤول، منها ان المتلقي للمنتج الثقافي يعاني من تسطيح غير مسبوق في المفاهيم بحيث لا يميز بين الفكر الحر الهادف لتحرير الذات، وبين التسويق الرأسمالي للثقافة البرغماتية. أن وجود طبقه مشوهه مدعومة من السلطة بشرت بثقافة استهلاكيه لتعزز السلطة، فعزلت النخب الأصيلة عن المجتمع وحولت حفنه من ضباط المخابرات الى متصدين للجهد الثقافي.
المحطات الفضائية التي تعمل بأجندات خاصه اغلقت كل منافذ التهوية للمتلقي وقذفته في اتون الحيرة والارتباك، فلم يعد يميز بين المعتدي والمعتدي عليه (حرب اليمن والسعودية) و ( داعش والحشد الشعبي ) مثالا”.
ان الطبيعة الإجرامية في حشد الثقافة النوعيه لتبرير الاطماع الشخصية في مد النفوذ القائم على إحياء تراث مسموم مليء بالتناقضات، وازدراء العقل، وتقييد حرية الانسان باسم الانتماء العقائدي، حول اجيال بكاملها الى قطعان لا تفقه الا الطاعة العمياء، واجترار نفايات الاعلام، والسباحة في قاذورات الثقافة الرسمية لأنظمة الحكم.
المثقف مسؤول عن عدم جدارته في خوض التحديات، فعجزه في استخدام مناهج المعرفة الحديثة في توليف فكر واضح يتحمل مسؤوليتها هو. المثقف العربي عجز عن التفريق بين الحل وبديل الحل، و بين الانتماء لبيئة مريضه والاغتراب ثقافيا”، اما محاولته الدمج بين افكار متناقضة ومتضاربة فقد جعلته أضحوكة، كالإسلام السياسي الذي يسوق الديمقراطية ظاهريا” ويعجر عن التبرير الفلسفي بينها وبين الدين، او الجمع بين العلمنة والتدين المفضوح.
المثقف العربي اسقط فهمه التقليدي لعلاقة الكنيسة بالسياسة في اوربا على الواقع العربي، وظل يجتر مقولات ملّ المتلقي من كثرة تكرارها. فالثورات لا يمكن تكرارها واستنساخها حتى لو حملت نفس المقدمات. والطامة الكبرى نزلت بعد الربيع العربي اذْ أصبح المثقف مرعوبا” بكل يوم يمر، فهو مطالب باتخاذ موقف حول احداث متغيرة متسارعة لا خبرة ميدانيه له فيها، لأنه تعود الحكم على الثابت من التاريخ او من ثبته غيره في ثقافات اخرى. الاحداث اطبقت على المثقف العربي , افقدته البوصلة وقدرة التحليل الرصين, فالتجأ بعضهم الى هويات اصغر من بُعدِهم العربي, تعفيهم من الإجابة المباشرة, فظهر لدينا مثقفي المذاهب, الاديان, القوميات, حتى الاجناس, وظهر لدينا مثقفي القنوات الفضائية اللذين يبيعون مواقف متناقضة لقنوات متناقضة, وهو ما يسميه جورج طرابيشي (بالرضة) التي امرضت الوعي الجمعي.
في العراق وبعد سقوط النظام ظهر جيش من الاعلاميين والمثقفين في الدول العربية, وهو من صنع جمهورية الخوف, احترفوا المواقع الاجتماعية الفاسبوك وتوتير يبررون الافعال الوحشية التي لانهاية لقسوتها في النظام السابق و لم يحترموا الشعب ولا الضحايا. تحولوا الى نموذج فاضح لسقوط الثقافة في الوطن العربي بشكل رسمي , وبدو كمن يذر الملح على جراح العراقيين.
لم تنتج الثقافة العربية نماذج عقلانية لصورة البطل والنموذج الوطني والشعبي نتيجة لتعدد الرؤى ومنابع الاستلهام التي تؤطر ابعاد البطولة، حيث وبقيت نماذج التاريخ بكل جنونها السادي هي من يقاس عليه، فتم مسح الصفحات السوداء لبعض الرموز التاريخية ليتم احيائهم من جديد كسعد ابن ابي وقاص ومعاوية، وحتى يزيد الذي قامت وزارة التربية في أحد الدول بأطلاق اسمه على أحد المدارس.
تمتاز المجتمعات العربية بعدم تطور بنيتها الثقافية ويمكن اختراقها بسهوله لدرجة انها تتقبل حتى الامور التي تخرج عن نطاق العقل والإنسانية , فاذا اضيف لها مثقف مأجور او غير محايد او قاصر عن فهم الواقع تصبح المشكلة مستعصية و لا تقبل الحل , وظهور ازمة داعش ووقوعها بين المدافعين والرافضين لوجودها اكبر دليل على خواء الثقافة العربية سواء في بعدها الديني او العلماني. قد نبرر لمن يدافع عن داعش دينيا” ولكن ان ينبري من يحمل أرقي الشهادات الأوربية في الدفاع عن منظومة الشيطان وتبني مفرداتها تحت بكل وقاحة يبعث على الياس.
يتحمل المثقف جزء كبير من مسؤولية الواقع العربي، ولأجل ان يبرئ ذمته عليه ان يقف بجرأة ويقود المعركة الوجودية بنفسه لإنتاج مشروع نهضه حقيقي، لا ان يخدر الناس بإسقاطات ثبت فشلها.
يجب على المثقف العربي ان يعلن وقوفه ضد الخزعبلات والخرافات والأسطورة والفكر الهدام، ويقف مع مصلحة الامه ويعي قيمته التاريخية، كما وقف سارتر ضد حكومته من اجل الإنسانية في الجزائر. لا يمكن للمثقف ان يبني جدلية الحياة والموت والبناء من خلال ترديد عبارات استعلائية او مواقف بلا ألوان. يجب ان يظهر المثقف وجهه ويعلن ثورته مهما كانت النتائج، لان الامم لا تصنع المستقبل بالتمنيات .