تتشكل شخصية الكتابة من خلال موهبة الروح أولاً وثانيا في من يؤثرون فيها ، وحتما الثاني هو من ينميَّ ويصقل ويمنحها خصوصية الرؤية والطريقة والتكوين ، وعليه فأن الكتابة هي فعل ينمو من بذرة أرض الروح وتحتاج الى الوسيط ( الفلاح ) الذي يعتني بها ويُكبرها ويُجملها أيضا .والفلاح هنا في أغلبه هو مجموعة الكون الحياتي ومكوناته البيئة من تضاريس وبشر وأقدار.
وأضع الأقدار من ضمن هواجس صنع الكتابة والكاتب لأننا فعلا نخضعُ لمؤثرات اللحظة التي لا ندري تماما بطبيعتها وتأثيرها ، وبالرغم من هذا فأن جميع ما نبدو عليه نحن الآن هو من نتائج قدر ما ، وربما الأنسان القديم ( السومري ) كان ينتظر ما يتوقعه في الحصة القدرية لحياته ويوعز ذلك الى مزاج الآلهة ورؤاها الى الانسان وخاصة الفقراء ، وهذا بيت شعري لشاعر سومري موجود ترجمه العلامة ( صموئيل نوح كريمر ) يوضح هذا الأمر تماما ، والبيت يقول : في اليوم الذي قسمت فيه الأنصبة كانت الحصة المخصصة لي العذاب والألم .
وأظن أن صدور كتاب تعيني معلما في مدرسة بإحدى قرى الأهوار هو قدر أيضا تضايقت منه أول مرة وحزنت ، ولكني بعد مرور شهر واحد وجدته عالما مثاليا لتطوير حواسنا واكتساب قدرات لم نستطع الحصول عليها في المدينة ، وكنت قد بدأت للتو تطوير موهبة الروي والقص لدي ، وربما تلك المشاهدات اليومية لعالم تصنعه بساطته وجمال بيئته وحفاة سكانه وهم ( يُطمسونَ ) في الطين اقدام من الصبر والتحدي غير عابئين بقصبة حادة أو عظم مكسور ينفذ الى اقدامهم ويتفاقم الجرح ويلتهب ولا يوجد في حياتهم شيء اسمه ( ديتول ) لتطهير الجرح بل يزيدون الجرح جرحا حين يطببونه في بعض المرات من خلال الكي في النار.
شهر واحد وأدركت أن تلك الاقدام الحافية ، حتى التي تقود صغار التلاميذ الى المدرسة وهم من دون حذاء في انتظار ما تجود فيه حصة مدرستنا من معونة الشتاء لتوزع على الأكثر عوزا فيهم ، كنت انظر الى اقدامهم البريئة حيث اكتشفت هناك أن الوجوه ليس وحدها من تحمل براءة البشر في ملامحهم ، الأقدام الحافية ايضا تعكس في تجاعيدها وقوة خطواتها على الارض وربما سيرها الذي يبدو في بعض الاحيان عذبا مثل موسيقى عزف الكاهنات في ممارسة طقوس المعبد.
لهذا كانت الأقدام الحافية أول دروس تطوير الموهبة الروائية والقصصية عندما كانت هذه الاقدام السمراء والمصبوغة بلون التراب وعتمة الطين بوابة تطلع منها على عالم وحياة المعدان في قريتنا ، وربما كانت هي أداة تطوير ما اردت أن أدونه في دفتر ذكريات عن يوميات هذه القرية وهذا ما قد لا يحصل عليه سوى اؤلئك الرحالة والمغامرين الذين اتوا هنا وكتبوا مؤلفات رائعة ورصينة عن حياة أولئك الحفاة.
من تلك الأقدام الحافية والى اليوم أتودد بخيال تلك اللحظات البعيدة وأكتب رواياتي . وأظن أن القدم الحافية والتي تعبر الطرقات المليئة بالشوك والأفاعي وعناد الجواميس هي ذات القدم التي تمناها بوذا لتوصله الى مملكة الضوء في العلا . وربما هي ذات الاقدام التي ادركت فيها ومنها أن الوصول الى دلمون يبدأ من مشيها البطيء والغير حذر وهي تدون على الطين الواح الخليقة البعيدة…!