18 نوفمبر، 2024 1:01 ص
Search
Close this search box.

مع العلماء في أخلاقهم

مع العلماء في أخلاقهم

-1-
رياضُ العلماء غنّاء …

تُبهجُ بأزاهيرها ،

وتُنعشُ بأشذائها الفوّاحة ،

وتمورُ بألوان العَبَق …

-2-

لا نذيع سراً اذا قلنا :

إنّ النسبة بين العلم والتواضع طردية .

فالعلم الغزير ، وحيازة الكنوز المعرفية ، وامتلاك القدرات الذهنيّة والفكرية المتميزة، وطول الباع في مضامير الإبداع ، والاضافات الجديدة في حقول البحث …، من شأنها ان ترهف الحس الاخلاقي عند العالِم ، وتجعله بعيداً عن أسوار الذاتية الرهيبة، والادعاءات التي ما انزل الله بها من سلطان ..!!

هذه هي السمة الغالبة لكبار العلماء، والتي لا يشذ عنها الاّ أصحاب الأوعية الضيقة، الذين لا يستطيعون الانتصار على أنفسهم المغموسة بالانانية والغرور …

-3-

بينما تلف النسبة العكسية سِيَرَ الحكام والسلطويين، الذين يُطلقون بالثلاث ما كانوا عليه قبل تسنمهم المناصب العليا ،وتأخذهم العزة بالأثم ، الاّ من خرج منهم بالدليل وقليل ما هم ..!!

إنّ حمامة الحرم يتحوّل الى مصاص دماء ..!!

والفقير الزاهد يتحول الى نَمِر جَشِعٍ لاسقف لمطامِعِهِ وطموحاتِهِ ..!!

-4-

سألت ذاتَ مرّة كبير المراجع في النجف الاشرف وقلتُ له :

بِمَ كان يتعبد الرسول (ص) قَبْلَ البعثة ؟

فلم يُجبني .

وبقيتُ منتظراً منه الجواب ، ولكنه لازَمَ الصمتَ ، فعدتُ اليه بالسؤال ثانيةً ، فقال :

أنا لا أجيبُ عن مسألة لا أعرفها .

وحينها أكبرتُ في الرجل احترامه الشديد لما يقتضيه العلم ، وأكبرتُ أخلاقيتَهُ التي دعته الى البوح بالحقيقة دون إبطاء …

انّ للعلم حُرمةً لايستهين بها العلماء ، وانما يستهين بها أدعياء العلم .

-5-

واذا أردنا أنْ نستل من التاريخ مثالاً للعالِمِ المتواضع الذي سُئِلَ مسألةً لم يكن يستحضر جوابها فأعلن بكلّ صراحة :

( لا أعرف جوابها )

فلنقفْ قليلا عند القاسم بن محمد بن أبي بكر (ت 109هجرية)

القاسم بن محمد بن ابي بكر ، من كبار علماء المدينة المنورة وفقهائها فهو أحد السبعة الذين يُشار اليهم بالبنان .

وقد كان يمارس الافتاء في المدينة المنورة

وقد جاء في سيرته :

إنّ رجلا دخل عليه في مجلسه ،- والمجلس غاصُ بالناس ممن توافدوا عليه من كل حدب وصوب ، ينهلون من ينابيع علمه ، ويستفيدون من مواعظه وحكمته – وتقدّم بمسألة معيّنة طرحها عليه باحثاً عن جوابها فما كان منه الاّ ان قال ، وبصوت عالٍ :

” لا أعرفُ جوابها “

وهنا فوجئ السائل بما لم يدر في خَلَدِهِ وقال :

لقد قَصَدتُكَ ولستُ عارفاً غيركَ .

فأجابه القاسم :

ياهذا :

لا تنظر الى طُول لحيتي ،

واجتماع الناس حَوْلي ،

فاني والله لا أعلمُ جوابَ مسألتِكَ

وكانت هذه الكلمات مثار دهشة الحاضرين جميعاً

ولقد انبرى بعض العلماء الحاضرين في المجلس فقال له :

يا ابن اخي :

إلزمها ،

فاني ما رايتُك في مجلس أنبلَ من هذا اليوم .

فقال القاسم :

والله لئنْ يُقطع لساني ، أحب اليّ من ان أقول شيئا وأنا لا أعلمه …

-6-

أين هذه الاخلاقية الفريدة من سياسيّ الصدفة الذين أغرقوا البلاد بالفساد وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً ..؟!

انهم أصحابً جهلٍ مُركبّ :

لا يعلمون ،

ولا يعلمون انهم لا يعلمون ،

وانا لله وانا اليه راجعون .

-7-

في عالمنا المعاصر لا يستطيع طبيب العيون مثلاً أنْ يدّعي بانه عالمٌ بكلّ أمراض العين …

قد يكون مختصاً بالقرنية …

وقد يكون مختصاً بالشبكية …

ولكنه ليس مختصاً بكل يعتري العين من أمراض …

وأشباهُ الاميين ، وحَمَلّةُ الشهادات المزورة، يدّعون الاحاطة بفنون السياسة وأسرارها ، وبكل ما يتصل بالزراعة والصناعة والتجارة ..

ويجهدون على إبعاد الخبراء والمهنيين عن مواقع التصدي لادارة دفة الأمور ..!!

انّ هذه الحالة البائسة هي احدى الظواهر التي تنفرد بها الساحة العراقية اليوم ، وهي من أسباب المشاكل والأزمات الراهنة ، ذلك اننا ما لم نضع (الرجل المناسب) في (المكان المناسب) لن نصل الى ما نصبو اليه من ازدهار واستقرار …

 [email protected]

أحدث المقالات