تواجه الأسماك اهوالا” لا نهائية في البحار الواسعة، وتهاجر ملايين الطيور بين قارات الدنيا لموطنها، وقطعانا” لا حصر لها من الحيوانات تتكبد العناء، وتهلك منها الالاف في رحلة العودة. فالوطن صيرورة المنتهى، واليه تُسلم أمانة الخلق، وعند الانسان فللوطن ملاحم خضبتها الدماء، ومآثر لا حصر لها بين البطولة والانتحار. فالمواطنة تطورت عند الانسان واتسعت مدياتها على قدر التفاعل الحي بين الانسان والمدنية. أذ عرف الانسان وحسب درجات الحضارة، مقاييس الحقوق والواجبات في مراحل مختلفة، رغم ان المفهوم المعاصر للمواطنة ارتبط بالدولة القومية، والديمقراطية، لتدفع العلمانية بمنتجها الجديد بكبرياء، غرة إسهامها الانيق في تجديد الفكر السياسي. كانت الامبراطوريات الأوربية تمسك الشعوب برابطة الدين الجامعة للاثنيات القومية، ولكن بعد اهتراء البناء السياسي لها ظهر وبشكل مفاجئ مفهوم الدولة القومية في القرن السابع عشر والتي وجدت في المواطنة كبديل جامع للشرعية العامة كما يقول جورج لوتين.
ترتكز المواطنة على التوزيع العادل للحقوق وتنظيم والواجبات. بحيث يتمتع افراد المجتمع بالحرية والمساواة والمشاركة في أدارة الدولة، ونشأت المنظومة المعيارية للمواطنة طبقا” للمرجعية الأخلاقية لكل جماعه بشريه، مما جعل هذا المفهوم يغوص عميقا” في طبيعة الإرث الديني والثقافي لكل امه في فهمها للمواطنة. أسست المواطنة لمجموعة مفاهيم عظيمه، حولت ولأول مره في التاريخ علاقة الانسان مع السلطة، من علاقة لحاكم (الملك، رجل الدين) مع محكوم (الشعب)، الى علاقة الشعب مع القانون، وأصبح هو مصدر السلطات وبه تتحقق المواطنة.
يرى الإسلاميون بأن الترابط الحي بين العلمانية والديمقراطية من جهة والمواطنة من جهة أخرى هو مجرد واقعه تاريخيه وليست ترابط مفهومي. أي ان ما جرى في اوربا من ولادة طبيعية للمواطنة مجرد تصادف لا يتكرر في احتواء العلمانية لمفهوم المواطنة. لأنه برأيهم إلزام مجحف ينطلق من المركزية الكونية للغرب في طبيعة التنظير، وان المواطنة يمكن ان تنشأ في أوساط حيوية أخرى كالأديان. ويستدلون بأن هناك دول علمانية وديمقراطية فقدت فيها الأقليات ابسط الحقوق البشرية في المواطنة، كما حدث في المانيا مع اليهود وفي أمريكا مع الجنس الأسود.
لايزال مصطلح عقد الذمة وما فيه من غموض من أكثر المسائل التي تحول دون تحقيق المواطنة في بلاد المسلمين، بالإضافة الى اعتبار الدين العامل الأول في تحديدها. حيث لازال الاحتواء القانوني غير كافي في الوعي الجمعي لاحتضان الأقليات الأخرى. وبالتالي أصبح وجودهم الذي يمتد الى الاف السنين محاصر بشرعية غير عادله. وانهم مهما حاولوا اظهار ترابطهم العضوي مع الدولة والمجتمع لا يكفي ذلك في تزكية انتمائهم للوطن ما لم يقترن هذا الترابط بالانتماء الى الدين كما يحصل للطوائف المسيحية في الشرق الأوسط.
عندما سيطرت الأحزاب الدينية على السلطة في عدد من الدول العربية أطلقت بغباء أعتى عفاريت التاريخ لتفعل في منظومتنا الاجتماعية مالم يسبق له مثيل، اذ أعادت صياغة الواقع بمسلمات تاريخيه ذات بعد طقوسي، فحولت الامل الذي جعل الشعوب تنتخب الإسلام السياسي الى كابوس ايقظ الهويات المتحاربة منذ الاف السنين فأوقع المجتمع في هوة الحروب البينية التي تفتك الان بالبنى التحتية للإنسان قبل بنية المدن.
.
تمثل دولة النبي في المدينة الممارسة الأولى والأخيرة للمواطنة في سياقها التاريخي في تاريخ المسلمين، حيث نصت وثيقة المدينة على ان اليهود امه كأمة المسلمين، او كما قال علىّ لهم مالنا وعليهم ما علينا. ويرى الكثيرين ان المادة 25 من وثيقة المدينة (يهود بني عوف أمه مع المؤمنين، ولليهود دينهم وللمسلمين دينهم) من اغرب وأنضج النصوص في التاريخ التنظيمي للمجتمعات البشرية، حيث تنص وتقر على حرية التدين، ولكن في نفس الوقت كانت النفوس تتهيأ لتمزيق الأمم والديانات الأخرى بحجة نشر الرسالة.
ان مفهوم اهل الذمة ,ومفهوم الجزية قد تكون نشأت في طور تاريخي معين, ولا تصلح ان تعبر الان عن المجتمعات المعاصرة, ولذلك من الخطأ الاستراتيجي والعيب التاريخي تفكيك البنيه الثقافية للدول بمبررات استعراضيه, لان العقل الموسوم بالجهل يتطير من اتفه الأمور لتفكيك المفكك وتنصيب العقل الوهمي رقيبا” في التنظيم الاجتماعي . الإسلام كعقيده جامعه جعلها التاريخ لا غيةً للهويات الأخرى بجهالة المؤولين والمنظرين، ودور الكفاءات المعاصرة يندرج في التقديم الحاذق للبناء المثالي للمجتمع، وعليهم ان يجعلوا من المواطنة والانتماء للقانون القاعدة الأساسية في بناء الدول، ولا ينشغل المتاسلمون بمصيرنا فأننا لن نذهب الى جهنم إذا كان قائدنا ملحدا” ولن نذهب الى الجنة إذا كان من يقودنا اميراً للمؤمنين.