مضى في طريقه الطويل إلى المستقبل، قاطعاً أشواط من المصاعب، ممنياً النفس برؤية وطن لم يلقاه يوماً، وطنه الذي ضاع بين كان وسيكون، جل ما يعرفه عن نهاية ذاك الطريق، إنه سيلتقي بشيء لا يعرفه..
هناك.. في النهاية، قد يجد العراق الموعود به..
ربما يلقى وطن تكلم عنه الغرباء بخير، لكنه لم يألفه..
نعم، كلمته قصص أخر النهار عن حضارة أرضه، يتذكر بصمت حذر حركة شفاه والدته وهي تردد يومياً.. نفس الرواية بعنوانها وأبطالها ومكانها.
يمشي، يتذكر.. يسأل نفسهُ ويسرح بعيداً.. أين هي تلك الحضارة؟
في زمن العسكر كان لدينا نبوخذنصر! وفي زمن اللا قانون كتبنا القانون!
وبابل عندما عانقت سومر.. بين نهرين كانا عظيمين نشأت كيش ونيبور.
يا ترى.. من ذبح سرجون وأكديته؟
من هدم الزقورة وأغتصب المسلّة؟!
هل عقمت شبعاد؟! ألم تنجب من الأولاد والأحفاد ممن يحمل عشقها للحضارة؟
أي ماضيٍ نسمع عنه ولا نرى حقيقته اليوم؟ أين العمران والكتابة والسياسة والدول؟ أين مستقبل الوطن المليء بالحب الذي وعدت به أمي؟ بل أين هي أمي؟ التي ملئت ذاكرتي بقصص أمست فقط للذكرى.
وهو دائرٌ في فلك الماضي البعيد، ينتابه الشك بمدى فهم والدته لأسئلته العديدة، أيعقل أنها لم تفهم أشارات وحيدها الأخرس؟
لا.. لا.. مستحيل، فهي من علمته لغة النطق بالعيون مثلما غرست فيه كل ذاك الحب لوطنه المفقود.
إذن.. لماذا غفلت الحديث عن عراق اليوم؟
لماذا جعلتني أعيش بين عراقين لا أعرفهما؟ بينما أنا أعيش في عراق الواقع المختلف؟!
ولأن المسير طويل.. لأنه لا يتنبأ بنهاية سعيدة قد تكتب له يفقه منها جواباً يشفي المكلوم..
وقف برهة يتأمل الخلاص من عبودية الحضارة، قرر الذهاب إلى قبر والدته يسألها دروب المستقبل..
عند قبرها.. تحدث طويلاً بلغة الإشارة المعروفة، حرك يديه، هز رأسه، تفاعلت قدميه وأنهمرت دموعه، أمي غاليتي يا خاصرة التأريخ وربيبته، أين هو ذاك العراق الذي رسمته لي تجاعيدك؟ كيف شكل العراق الجديد بقصائد أبتسامتك؟
ويلي.. وهل يجيب الأموات!
بأس الحياة التي تقتل الحضارة، تنفي المستقبل وتدفن أمي..
من بين عجينة الحجارة والرمل والعظام، خرج صوت تميزه جيداً أذانه الصم..
ولدي.. قرة عيني وبضعة تأريخنا المكسور
لأني أحبك لم أكلمك عن حاضرك، ففيه ما قتل أمك وخشيت أن يقتلك.
لأن الوطن أصبح لعبة الحكام يداولونه قتلاً وسفكاً وخراب، أخفيته عنك.
لأنهم مزقوه، صلبوه، جردوه قميص الحضارة، وقتلوا مستقبله.. أبعدته منك.
كونهم ملوكاً.. عشنا خدم وكرهت لك هذه العيشة، أختفت المبادئ يا ولدي وتلاشت القيم في عصرنا، فوددت أن أجعلك تعيش عصرك الخاص كي أهنأ بموتي..
الصدق ياعزيزي كل الصدق..
مات سنحاريب ولم يخلف قائداً..
رحل حمورابي ولم يترك قانوناً..
والعلم والكتابة والبناء والعظمة.. غادرن مع من يجلهن ويحترمهن.
والحضارة.. بني.. هي الأخرى ذهبت، أخذت معها الحاضر وجردت المستقبل من ضميره.
أذهب.. أنسى كل شيء
فكر فقط بحاضرك. وأصنع مع شباب وطننا مستقبلكم الذي تتمنون.. وكنا نتمنى.
هنا ثرثر الأخرس بكلمات..
رحماك وطني..
غفرانك بلدي..
عافاك ربي.. ونصرك