في تاريخ الشعوب المشابهة لحالة جماهيرنا العريضة، من فجر التاريخ، أو من بدء كتابته على وجه التحديد، وقائع ثابتة تؤكد أن الفائز دائما في الانتخابات والاستفتاءات العامة هو (الحاكم) القوي الذي تخاف الجماهير العريضة من ظلمه أو من جهله، أو تطمع بعطاياه، والذي تعلم بأنه الوحيد القادر على الإغداق، ولا يهمها أن يقال إن إغداقه فساد وعطاياه اختلاس، فهي قبل غيرها وأكثر من غيرها خبرته جيدا وخبرت حاشيته وزبانيته، وذاقت منه ومنها المرار. وفي الدول ذات العاهات المستديمة التي سبقتنا في التخلف والتزوير والافتراء غالبا ما يصبح الباطل حقا، والظلم عدالة، والفساد شطارة. وحين يكون المرشح رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزارة، أثناء فترة الانتخابات، فلا أمل في الاحتكام لضمائر الناخبين وعقولهم، إلا في النادر القليل. هذه هي القاعدة وما عداها شوارد عابرة.
والأقرب إلينا من الأمثلة حافظ اسد وصدام حسين وحسني مبارك وبن علي وبشار وعلي عبد الله صالح. وأخير عمر البشير. جميعهم كانوا جلادين لشعوبهم، ولكنهم منتخبون وبنسب تتجاوز المعقول. وهذا لا يحدث في انتخابات الدول فقط، بل يحدث أيضا في انتخابات الأحزاب والهيئات العلمية والأكاديمية، ويحدث أيضا في النوادي والدكاكين. وقد تحدث عن أحوال الجماهير العريضة سقراط وأفلاطون وإبن خلدون والمتنبي وأبو العراء المعري والرصافي وعلي الوردي والسياب، وكثير من الفلاسفة والمفكرين والأدباء في كل آداب الكرة الأرضية الواسعة، وكشفوا أنها كانت في أغلب حالاتها ترى الحق وتجانبه، وتعرف الصواب وتزوغ عنه، تبعا للحاجة وللظروف. فلو أجلسنا قردا على كرسي قيادة الدولة أو الحزب أو العشيرة، ومنحناه البنك المركزي والجيش والشرطة والأمن الوطني والأمن الخاص والمخابرات والصناعة والتجارة والزراعة والري والأوقاف والمحاكم والسجون والثقافة والفنون، وأتخمنا شوارع المدينة بصوره المتنوعة، ضاحكا مرة، وعابسا مرة، لأصبح غزالا في عيون الجماهير العريضة، ولدبجت في مدحه القصائد وأطلقت الأغاني والأهازيج، وأقيمت التماثيل، وصار هو الأعلم من الجميع، والأكثر أمانة وشجاعة ومروءة، ولفاز بلا نقاش ولا جدل.
من منا نسي كيف كانت الجماهير العريضة تزحف على بطونها لتهتف بالروح والدم لجلاد قامت هي ذاتها، بعد سقوطه، بضرب تماثيله وصوره بالأحذية؟. وهل ننسى الملايين التي قالت (نعم) لصدام وحافظ وبشار؟
ومن منا لا يتذكر ذلك الأب العراقي العربي (الشيعي) المنتمي الآن لواحدة من مليشيات الحشد الشعبي لنصرة دولة الولي الفقيه) حين قتل ولده لأنه لم يسارع إلى محاربة إيران؟، والمواطن (الشيعي) الآخر الذي لم يقبل أن يكتب (نعم) للقائد الضرورة بالقلم العادي، فجرح يده وبصم عليها بدمه؟. بالروح بالدم نفديك يا زعيم!! مناسبة هذا الكلام هي الإعلان عن فوز الرئيس القائد عمر البشير بأكثر من 90 بالمئة في اتنتخابات قاطعتها ملايين السودانيين المكتوين بناره والمحاصرين بظلمه وفساده وفساد بطانته المنافقة.
فقد أفادت المفوضية أن الرئيس السوداني حصل على نسبة 94,05 % ونال 5 مليون و252 ألف و478 صوتًا من جملة الأصوات الصحيحة البالغة 5 مليون و584 ألف و863 صوتًا. خلاصة الكلام أن قائمة دولة السيد الرئيس فازت بأغلب أصوات الناخبين، شاء من شاء وأبى من أبى، بالحلال أم الحرام، باللين أم الشدة، بالمال أم بالسلطة، وسيبقى لاصقا بكرسي الرئاسة، ديمقراطيا، وانتزع الشرعية، ولو كره الكارهون. ربما يكون المعارضون الذين تحدثوا عن أوامر رئاسية لمنتسبي الأمن والشرطة والجيش بالتصويت لقائمة السيد الرئيس واهمين ويتخيلون أمورا لا تحدث. فالرئيس ليس في حاجة لأوامر من هذا النوع خوفا من أن تتسرب إلى خصومه. فهو يعلم علم اليقين أن لا أحد من الضباط الكبار ولا الصغار، وحتى من الجنود، مخيرٌ في التصويت، وقادرٌعلى استخدام حقه الطبيعي الذي أقرته الشرائع الدنيوية والسماوية كلها وألحت على التمسك به في مواجهة الظلم والاستعباد. فمن المؤكد أن الجماهير العريضة الجائعة والجاهلة والخوافة ستصوت، متطوعة وراضية مرضية، لدولة السيد الرئيس، وتعطيه ما يحتاجه من أصوات، وزيادة. ليس لسواد عينيه، بل لكرسي الرئاسة الذي يجلس عليه. أما برامجه الانتخابية وخامة مرشحيه فهي آهر ما يعني شرائح واسعة من هذه الجماهير. إن لدى الرئيس وظائف حكومية يسيل لها لعاب الكثيرين، ليس من المحرومين والجائعين والمعوزين، فقط، بل من قادة ونواب رئيس وزراء ووزراء عادوا جماهيرهم وانحازوا لمن يجلدها، علنا وعلى رؤوس الأشهاد، وارتموا بأحضانه الدافئة، وصاروا أدواته التي يستخدمها عند الحاجة وحسب ما تأتي به الظروف. أما المعارض الذي سيخوض هذه الانتخابات أملا في نزاهتها وطمعا بصحوة ضمير الجماهير
العريضة فهو مغامر حسن النية غاب عنه الكثير من الدلائل والوقائع والبراهين التي تقول للعمى قبل المبصر إن الديمقراطية في بلادنا وهمٌ، وإن طلابها واهمون.
أبشركم بفوز السيد الرئيس. ويسقط دائما في الانتخابات أهل العلم والخلق والشهامة والنزاهة، ويبقى الوطن خروفا مشويا على موائد اللئام، ما دامت جماهيره العريضة لا تفرق بين الألف وكوز الذرة، كما يقول المثل.