منذ بضعة سنين اصبح ظاهرة عامة واخذ ينتشر سريعا ويستخدم لحل النزاعات بين طرفى المتخاصمين, ما اخذ يعرف بـ “الفصل العشائرى”. حينما تنصب خيمة كبيرة يوم الخميس فى وسط الشارع, فى المدن الكبيرة والاقضية والنواحى, فان يوم الجمعة سيكون مقرا للفصل العشائرى, حيث يتوافد اعيان وشخصيات المتخاصمين من العشائر. ان التوسع فى انتشار هذه الظاهرة والعمل بها يرجع اولا الى ضعف القضاء الحكومى الرسمى الذى يقوم على القوانين التى شرعت فى الدولة والتى يجب ان يخضع لها جميع المواطنين, طالما ان “الجميع متساؤن امام القانون., من ناحية اخرى فان القضاء المحمل والمثقل المرهق بقضايا عديدة والذى يعانى من نقص وعجز هيكلي متزايد فى مختلف مستويات القضاء, تبنى, لظروف صعبة جدا, موقف الضعيف المتراخى الذى تنقصه الارادة وقوة الحسم فى الامور, ان يجد من يخفف عنه هذا الحمل الثقيل, مراعيا ومتماشيا على التاكيد الذى يقضى بان “المجتمع العراقى مجتمع قبائل وعشائر”ومنذ منذ تأسيس الدولة العراقية كان يعمل رسميا بـ “قانون العشائر” الذى فرضه الانكليز فى التعامل مع العشائر بعيدا عن بقية قوانين الدولة, وكان من القرارات المهمة التى اتخذتها “ثوره14 تموز” الغاء قانون العشائر والعمل بالقوانين التى تشرعها الدولة. لقد ارتى القضاء ان يصادق على الاحكام التى يتوصل اليها الفصل العشائرى على ان يتم التنازل عن القضية امام القضاء وتكون الاحكام نافذة المفعول وتفعل من فبل طرفى النزاع وبضمان من العشائرمن كلا الطرفين.
لابئس ان يخفف القضاء عن كاهله فى الحالات البسيطة العامة التى يمكن ان تحسم بالتراضى بين الاطراف المعنية, الا ان هذه “الحالات البسيطة” اخذت تشمل حالات عديده مهمة والتى تاتى من ضمنها حالات النزاعات التى تتجاوز قتيلا واحدا, عدا الحالات التافهة التى المخجلة حول خصوصيات المعنيين التى اخذت تتداول بين الناس. ان التطورات الخطيرة التى حصلت للفصل العشائرى حيث اصبح وسيلة تهديد فاعلة: الطالب يهدد الاستاذ والموظف يهدد المدير والعامل يهدد صاحب العمل باستخدام الفصل العشائرى, فقد تبلورت جماعات من محترفى اكلام (افاقين) لهم القدرة علىتلوين الاشياء وفقا لحاجات الذين يوكلوهم. عموما فان قرارات الفصل العشائرى تترجم بمبلغ مادية كفدية وتعويض عن الاضرار التى لحقت المشتكى. ان الصيغ والمجالات التى يستخدم فيها الفصل العشائرى تهدد بتقويض منظومة القيم الاجتماعية وشرعية الدولة فى القضاء. .
فى واقع الامر فان الوقوف على جزئيات الاجراءات وطريقة العمل والكلام الذى يتدوال بين فريقى التحكيم يشير الى وجود سيناريو محكم قد تبلور نتجة الخبرة المستمرة وحالات التشابه فى القضايا امطروحة “للقضاء”. ان “فريق المعتدى عليه- المشتكى” يتصل باعيان عشيرته وشخصياتها ويشرح لهم الحالة, وهؤلاء الاعيان و والشخصيات المحترمين ياخذوا موقفا ايجابيا وتشجيعيا على مظلومية المشتكى ويرتقوا بها الى مستوى مسؤلية العشيرة, والتى لايمكن السكوت عليها, والا فان اسم وسمعة العشيرة ومكانتها بين العشائر سوف تتعرض للاهانة, وشرف العشيرة منطقة حمراء لا يمكن تجاوزه والوقوف مكتوفى الايدى وكانه شيئا لم يكن. ان هذا الموقف يقوم على اننا مجتمع عشائرى يعيش فى المدن جسما ولكنه بعد اكثر من مئة سنة لازال عقله وضميرة فى ريفية المعهود او صحرائه العزيزة, و كما يبدو فأن استعادتها يحصل بما يتفق مع مزاجه والحالات التى يمر بها.
ويستعد هؤلاء الاعيان لـ “لمعركة” فى اليوم المحدد بعد ان تم تسمية عدد اعضاء الوفد والمتكلمين. فى المقابل يهىء ” فريق المعتدى- الطرف الثانى” انفسهم للمرافعة فى اليوم المحدد.
ان الخيمة الكبيرة مجهزة لمثل هذه الحالات, الارضية المفروشة , والكراسى على الجانبين والشاى والماء والقهوة العربية , وعدد من الاشخاص جاهزون لخدمة الوفود, هذا بالاضافة الى وجبة الغذاء التى يجب ان تكون على الاقِل من الناحية الكمية والنوعية بما يشرف مقام العشيرة. ان هذه التكاليف التى تترتب يتحملها “فريق المعتدى عليه”, ولكن كما يبدو فان كل شىء محسوب ومقنن سلفا.
يبدأ شخصيات واعيان طرف “المعتدى عليه- الطرف الاول” بالوصل الى موقع الخيمة حيث يتم الترحيب بهم من قبل الاقارب والاصدقاء, الحقيقة, ان هؤلاء الرجال يقدموا طلعة بهية , العباةءات السود والبنية اللون , المطرزة بالاصفر الذهبى, والغتر البيضاء الجميلة المتدلية على الاكتاف والتى تجلس عليها “العقل السود الغليضة- عقال” , ووجهوه الرجال النظيفة الجميلة التى قد زدادت من حيويتها مستحضرات التجميل الحديثة وتنبعث منها عطور باريس وروما, هذا واوزانهم التقيلة التى تعبر عنها كروشهم الضخمة تعطى صورة مكملة للوقار والاعتزاز بالنفس والتعبير عن المكانة التى يتمتعون بها. بعد فترة قصيرة يتوافد فريق المعتدى, وهؤلاء لايختلفون كثيرا عن الفريق الاول, شخصيات واعيان قد وزعت فيما بينهم الادوار, ولكن باضافة احد “المعممين” من رجال الدين الذى يحمل راية بيضاء وهو قليل الكلام, يصمت الى ان تصل الازمة مستواها فيتدخل, رافعا الراية ويقسم بالاواياء الكبار وباجداده العظام, انه سوف يترك هذا المقام اذا تستمر الحالة عل هذا التوتر, وانه فى عجلة من امره وعليه حضوره مجتمع اخر ويجب ان ينظر به ويساعد على لم الشمل والوفاق بين الاخوة والاصدقاء. فى هذه الاثناء فان الشارع الذى
اقيمت فيه الخيمة, والشوارع القريبه قد اكتضت بالسيارات الحديثة نسبيا وخاصة سيارات الدفع الرباعى.
ياخذ الكلمة من الفريق الاول ويرحب بالضيوف ويقوم بشرح القضية والحالة الاليمة التى تسبب بها الطرف الطرف الثانى التى تمثل اعتداءا صارخا على الاصول والتقاليد وحسن القيادة, ويشير الى انهم ليسوا بصدد الانتقام وانما من اجل ان ياخذ الحق مكانه وتعويض المصاب الاضرار التى ترتبت نتيجة للحادث. ينهض من الطرف الثانى احد المتكلمين ويشكر العشيرة على ضيافتها وهى المعهودة بكرمها واصولها ونسبها الذى ليس بحاجة الى التعريف, وهم متأسفين على الحادث الذى تسبب الضر والاذى للمراة وحضورهم الى هذا المكان الكريم انما لشعورهم العالى بالمسؤلية واملهم فى تسوية الموقف واحلال الحق , والله على ما فى القلوب . القضية كانت حول عملية دهس بالسيارة من شاب , كان كما يؤكد الطرف الاول مخمورا وان له سوابق بعدم حسن السيرة والسلوك, ونتيجة للحادث فقد كسرت ساق المراة وخلع فى الكتف وكانت فى غيبوبة فى المستشفى لمدة يومين. انها تشكو حاليا من اعاقة فى المشى. ويتكلم شخص اخر من الفريق الثانى ويبدى تاسفه ويؤكد على ان الحادث كان قضاء وقدر وهذا يمكن ان يحدث فى كل مكان وزمان ويمكن ان يحدث لنا عندما نخرج من الخيمة, وعليه فهو يرجو بالتريث وعدم التسرع فى اطلاق الاحكام. ينهض شخص اخر من الطرف الاول ويتكلم بحدة وامتعاض لما سمعه من المتكلم قبل قليل, ان السائق كان مخمورا ويسير بسرعة كبيرة ولم يستطيع استخدام الكوابح فى الوقت المناسب والذى تسبب فى الحادث, هذه القضية لايمكن الاستخفاف بها , خاصة وان المراة تشكو الان من اعاقة فى المشى. القضية بكل بساطة لابد من تعوض الاضرار التى نشأة عنها. اننا نطالب بتعوض قدره 20 مليون دينار بالاضافة الى تكاليف الخيمه. ينهض شخص اخر من الطرف الثانى, ويلقى شعرا على تارخ العشيرة وشيمها واصولها وايات من الذكر الحكيم مخففا من التوتر الذى حصل فى الدقائق الاخيرة, واشار الى ان الحادث كان قضاء وقدر, وانهم مستعدون للتعويض, الا انهم يأملون بكروهم وشيمتهم. وهكذا تستمر المقابلة صعودا ونزولا وتتخللها بعض حالات من الزعل والنية فى ترك الخيمة من قبل اهل المصابة مباشرة لشعوره بالظلم وان ما يطرح فى النقاش لا يوازى الاذى الذى تسببه الحادث, وينهض رجال من الطرفين لارجاع الرجل الى الخيمة, الا ان الجو مازال متوترا جدا. فى الحقيقة ان ما يحصل من تبادل من الهجوم المتبادل والثناء المتبادل من الطرفين يعتبر قمة فى تطور الحدث الدرامى الذى يقوم على سيناريو محكم بالمؤشرات والمناورات والتفاصيل الذى تبلور نتيجة للتجربة والتكرار وكانه يبدو معد ومتفق عليه مسبقا. لقد تم التنازل, تدريجيا, عن عشرة ملايين للطرف الثانى الذى كان لديه من المتكلمين البارعين الذين يبدون وكانهم محترفين كلام واصحاب خبرة كبيرة بمثل هذه المنازلات, ومع ذلك فان الطرف الثانى مازال غير مقتنع بحجم المبلغ ويستخدمون حسن الكلام ومناجاة الانبياء والاولياء, ولكنهم لا يجدوا قبولا من الطرف الاول, واخيرا ينهض
الرجل المعمم الذى كان صامتا ومراقبا طيلة فترة السجال, ويرفع الراية البيضاء ويقول كلمته , بانه جاء هنا للخير والرحمة والعمل بسنن الانبياء والاولياء, انه يرجو من الاخوة ان يكونوا اكثر كرما ورحمة, ويقدروا ظروف الاب الذى سوف يدفع الفديه, (كان الاب طبيبا معروفا وسيارة الحادت كانت غالية جدا), والله وحده المعوض , ان يجعلوا الفصل باسم الاولياء الاطهار بـ 7,5 مليون دينار والطرف الثانى مستعد لتحمل تكاليف الخيمة والطعام….وتوكلوا على الله ودعونا نقرأ الفاتحة. ويقترب المتكلمون من بعضهم ويتصافحوا ويقبلوا البعض, ويتم فراءة الفاتحة من قبل الحضورالا ان التذمر وعدم القناعة من قبل الطرف الاول كانت واضحة للعيان.
عند استفسارى لدى اخ المصابة , قال, لقد غدر بنا جماعتنا, قد خذلونا, وكان ا المتكلمون من الطرف الاخر افضل من جماعتنا كثيرا. هذا نموذج بسيط من الفصل العشائرى, الذى يمكن فهمه فى ظل ضعف الدولة والقضاء, ولكن الفصل العشائرى يبحث فى قضايا عديدة تصل الى القتل والصراعات العشائرية حول الاراضى, بالاضافة الى قضايا اخرى لااستطيع استيعابها: فى احد المجالس كانت الشخصيات والاعيان من الطرفين تصدر حكما على قضية اخلاقية, رجل كبير السن متزوج وتزوج من شابة تصغره حوالى ثلاثون سنة, وكان الرجل ميسورا فقد جهز لزوجته الجديدة الثانية بيتا خاصا بها واتفقوا على ان يتقاسم لياليه بين الزوجتين, يومنا هنا ويوم هناك. ان الزوجة الجديده قد اقامت علاقة مع احد شباب المنطقة واخذ هذا يقضى لياليه معها, عندما يكون الزوج من حصة الزوجة الاولى. اننى لا اهوى الدخول فى اسباب العلاقة ومتى بدأت, لان ذلك لايحل مشكلة ولاارغب فى اطلاق احلام او اقدم اعذار. وتشاء الصدف ان الزوج ,على غير عادته وخلافا للاتفاق, ان يقدم الى زوجته الثانية التى لم تتوقع حضوره, ويشاهدها مع الشاب فى غرفة النوم , الزوجة وعشيقها. وبعد تبادل الكلمات البايخة والتهديدات والاتهامات بالشرف والخيانة, تناول الزوج مسدسه وصوب نحو الشاب , الا ان الاطلاقة توجهت نحو مكان اخر. ويلجأ الزوج الى عشيرته التى تقيم فصلا عشائريا. كان الحكم على الزوجة واضحا فهى تعتبر زانية وعلية فقد وجب طلاقها. اننى لا اتوقع من فصل عشائرى ان يبحث فى الاسباب ويوزن النتائج, ولكن الزوج الذى كشف عن حياته الخاصة بهذا الشكل المهين, ماذا كان يتوقع, هل ان عشيرته سوف تزيد من احترامها له, ام انه سيكون شخصا تضرب به الامثال. ان الزوج, بتكوينه العشائرى ونظرته القاسية البشعه الى المرأة, لايمكن ان يكون له تصرفا اخر يحفظ له كرامته وكرامة المراة ويقوم بطلاقها بكل هدؤ. اصبح مثل هذا التفكير العقلانى الهادىء لا وجود له فى مجتمعنا منذ سنين وهو فى غيبوبة لسنين قادمة, واخذت تغلب علينا البداوة والعشائرية, واخذنا نفتخر ثانية بانتماءاتنا العشائرية والقبلية. بعد عدة عقود من التعليم والتحضر رجعنا القهقرى الى الجذور التى اخذت تنبع بقوة حينما يحتاجها السياسيون. صدام حسن استخدم العشائر عندما طالت الحرب واخذ الجنود
يهربون من “جنة” الحرب, والان تستخدمها النخب السياسيه بوسائل متعدده, لتعميق حالة التشرذم والنأكيد على الطائفية من اجل استمرارهم بالحكم.
لقد سجلت بارتياح سقوط مبدأ “المراة الفصلية”, المراة التى تحسب كجزء من الفدية والعقاب, وتدخل فى نظام العبودية مدى الحياة, ويجب ان تقوم بكل ما يطلب منها وحتى تحرم من الطعام لبضعة ايام كعقوبة لم تقترفها, ولكننا نزهو بانتمائنا الى عشائر وقبائل كانت تعمل وتشرع لعبودية المراة. فى واقع الامر ان المبدأ لم يسقط ويطالب به البعض فى المجالس ولكن اخذ يعوض عن “المرأة الفصلية” بالاموال.
طالما تتمع العشائر بالقوة العسكرية, وولاء الابناء والبنات الى العشيرة, فان الدولة لا يمكن ان تبنى ناهيك ان تكون قوية ومحترمة.