17 نوفمبر، 2024 10:38 م
Search
Close this search box.

قراءة في ديوان هل ابدل عتمة هذا البحر بزرقة روحي للشاعر علي نوير

قراءة في ديوان هل ابدل عتمة هذا البحر بزرقة روحي للشاعر علي نوير

من منطقة انزياح العاطفة الى جغرافية الاحباط الشعري
لقد أضحى النص الان مطالبا بتمزيق هويته ونسيان ماضيه وبتر جذوره (وغسل دماغه) لينسجم بذالك مع مقولة الامبريالية الادبية عن نهاية (مرجعية النص ). فبعدما مهدت تيارات فكرية وثقافية وفنية (مؤدلجة) لهذا الامر – من خرافة موت المؤلف , وتحليل النص بمعزل عن صاحبه ,وتفجيراللغة , وسيادة (الاشياء) على حياة التأويل…..الخ ,ويبقى السؤال مطروحا على طاولة التشكيك , ترى كيف يفهم شعر السياب بمعزل عن امراضه واوجاعه ؟ , وكيف تفهم قصص محمد خضير بمعزل عن لغة الاشياء وتواصيف وظيفية عوالم الترميز ومرجعية النص القصصي ؟ وكيف تفهم نقود جميل الشبيبي بمعزل عن عقده الاجرائية والتطبيقية في اصطلاحية ومسميات الخطاب النقدي ؟ كذلك كيف تفهم عوالم قصائد حسين عبد اللطيف بمعزل عن تراكيبيته (الاندنوسية) المفبركة وطلاسمه المباشرة في فهم شيئية المفردة الشعرية ؟ .

هذه اسئلة نستعيض عن ايجاد اجوبة لها , الا بالعودة الى زمن الاتجاهات النصية الجديدة , او الى لحظة التأويل او الاسترجاع الحقيقي كي تعتبر لحظة التأويل لحظة استرجاعية لان معولها بناء النص , من جديد , في الذهن , عبر علاماته الاسلوبية المميزة وذلك لغاية ادراك المعنى , فيمكن تعريفها بأنها سعي الى تقصي المعنى منظورا اليه من خلال بنية ( استرجاعية بنائية ) او من خلال بنية ادبية مجازية . ولحظة التأويل مختلفة , على نحو سيتبين في الفقرة اللاحقة من هذا المقال . عن لحظة الفهم بما هو ( استيعاب النص) من خلال تنزيله في سياقه المرجعي الواقعي, اي في سياقه البنائي والتأريخي والذوقي , اي , بعد ان ينهض القارئ بحق القراءة الذوقية , يستشعر فراغ المعنى وخوائه , واذا كان التأويل بهذا الصدد يعد استنباطا للمعنى المطروح من خلال

العلامة الاسلوبية المشحونة جماليا , فانه يقيم رأيه هذا بمخالفة مقولات النقد التي قوامها ان كل قول , ايا يكن نوعه , يعد تأويلا , بقطع النظر عن شحن العلامة شحنا مجازيا , او عن ابقائها في مستوى درجة الصفرية او الحيادية , وفي نهاية الامر لا يخفى عن القارئ , من دور , هنا في تحقيق ادبية النص وجماليته , ذلك ان ادبيته تلك تبقى معلقة , منتظرة في حيز قوة ( الاسترجاعية البنائية ) كما الحال عليه في ديوان قصائد موضوع مقالنا هذا , فالنص بلا قراءة , يبقى مجرد علامات متظامنة بعضها الى بعضها الاخر , لا ترتقي الى درجة الادب او الفهم الذوقي الجاد . ولنا ان نستنبط مما تقدم , ان مقياس نجاح النص الادبي ليس بما يحتويه من ظواهر جمالية بقدر ما يكمن نجاحه في مدى حثه القارئ على التأويل واستخلاص المعنى .

كانت نائمة حين فتحت النافذة الان

لاراقب وقفتها ..

في الطرف الاخر

لم تكن الغرفة مظلمة

اشباح الكتب المعروضة فوق الرف .. تواجهني ,

وحفيف شجيرات السدر .. ورائي يرعبني ص17)

استطاع الشاعر علي نوير في ديوانه الذي صدر قبل عدة سنوات ( هل ابدل عتمة هذا البحر بزرقة روحي) من ان يرسم الخطوة الاولى نحو هذا ( المجد الشائخ !) ويصل به في لحظات عديدة الى منطقة (توهج العاطفة ) التي نستطيع معها ان نقف وجها لوجه امام صورة القصيدة , التي نتلمس من خلالها اخلاص الشاعر وروعة الفن . ولكننا نجد , الى جانب ذلك , ان التوثيق في التعبير الشعري قد يفلت منه احيانا , وفي لحظات اخرى هي في الواقع غير محسوبة فلا يبقى منه بين اختلاجاته الا تمظهره الخارجي وانفاس الشاعر وهي تتقطع تحت اثقال عبئ الكلمات وعذاب تجربة ( الاحباط الشعري) . في قصيدته (شجن الروح ) اراد الشاعر نوير , ان يسجل , بالمقدار الذي تسمح به تجربته العاطفية , سيرورة وقائع الاخر مع معطيات الذات الانسانية , ولكن الشاعر يبقى مع ذلك ممسكا بالطاقة الشعرية , لا بفعل القصيدة وحدها , وانما بفعل الجو الذي تستثيره الكلمات :

لك هذي الاغاني

ولي – يا شقيقة روحي – غبار الطريق

لك قلبك يخفق مبتهجا

لك روحك سابحة

في الفضاء الفسيح

ولي

كل هذا الحريق .. ص37

غير ان القصيدة تلتوي بعد ذلك وتخرج من الساحة والهواء الطلق لتدخل عالم الشاعر وما جابهه من انكسارات ومحاصرات نفسية :]آه ايتها الساحرة , انها الريح تعبث بيه وبك الان , حيث الضياع الاخير ..ص48[

من هنا يعطي الشاعر القصيدة , في هذه المقاطع , شيئا من التركيز اللذي افتقدته الصورة حتى الان , وكأنه احس بذلك فعمل على تلافيه , ولكنه لم يتجاوز هذا الحد اللذي رسمته هذه العبارة الشعرية , فعاد يقول بعد قليل : ] هاهو الموج يرمي بك الان , للصخرة القادمة …ص49[

لعل الشاعر يبدو متكئا على نفس الصورة السابقة وقد يكون ذلك امرا تستدعيه حالة الشاعر النفسية وديمومتها , ولكنه حين يكرر نفس العبارة في مقطع اخر تكون قد فقدت سحرها الشعري , ولبثت دخول منطقة (الاحباط النفسي / الشعري / العاطفي) بأستثناء ان الشاعر قد اعطانا بذلك صورة عن العجز الذي وقعت فيه القصيدة , ويجعله مجرد شاهد خارج القضية . وفي قصيدته ( في الطريق الى الاخرين ) استطاع الشاعر ان يرسم صورة الانسان – الشاعر , والحدود التي لا تستطيع ان تمحوها المسافات و(كان ما بيني ..وبين الماء خطوتان ) ويتصاعد هنا نمو القصيدة تصاعدا طبيعيا اسرا لينتهي بذروة ( صرخت في وجوهكم .. هربت من وجوهكم .. عبرتكم .. جناية وشاهدا ..عرفت اني بينكم انسان ..ص6) وحينذاك يتحدد موقف الشاعر وتصبح عملية (انزياح العاطفة = احباط القصيدة ) امرا طبيعيا لا مفر منها في عرف النقاد .

فحين تبدأ ( تخشبت اصابعي .. وامتد ظل السور ..ص4) فلا بد من وجود الشاعر في القلب منها , لانه في الوقت نفسه راح يفقد كل مبرر للوقوف خارج نداء احباط النفس:

لم يكن الماء فراتا سائغا

شاركتكم كهفكم المسحور

هاجرت في وجوهكم

فلم اجد غير بيوت خشب

قد شادها النسيان .. ص5

هذه القصيدة تبقى من ناحية واحدة من القصائد القليلة التي اكتسبت بصدق وعفوية لتشير الى موقف يصل احيانا الى حد التطابق مع اجواء قصيدة شاعرنا المبدع سعدي يوسف, ولربما نفس الشئ يقال في مقاطع اخرى من قصائد هذا الديوان . وما دمنا هنا بصدد الحديث عن تجربة الشاعر علي نوير , فلا بد من الاشارة الى ان بعضا من قصائد الشاعر في هذا الديوان , لا ترقى الى مستوى التجربة الحقيقية في الشعر الذي يضيف , والشعر الذي يغير , والشعر الذي يسمح بأن نكتشف فيه مالا نكتشف في غيره . وانما هي (محاولات ) قد تكون ناجحة على مستوى بدايات الشاعر , ولكنها في الوقت نفسه تبقى مع ذلك في حدود المحاولة التي قد يتجنى الشاعر على نفسه كثيرا اذا جازف هو بضمها الى مشروع ديوان شعري يريد له ان يقرأ .. من ناحية اخرى , اذا استثنينا هذه المآخذ التي اعتقد ان الشاعر يستطيع مع شئ من الجد والمثابرة ان يتخلص منها , والواقع ان لغة الشاعر تمتلك , على العموم , مشروعية المرور الى (منطقة القصيدة ) في الحالات القليلة والتي هي بمعزل عن الاحتكاك بقشرة الواقع الخارجي , وهو ما اعتقد ان الشاعر مطالب بتوكيده في مرحلته الشعرية القادمة .

أحدث المقالات