يؤسسُ العطر أجمل مدنه في الفم والرئتين وذكرى من نفتقدهم حين نشعل أعواد البخور لنزرع الرائحة المعطرة من أجل تلك الطمأنينة التي نتمناها لهم في رقدتهم الأبدية.
ومنذ طفولتنا لم يلازمنا في ممرات الصدر والأنف عطر سوى عطر الحناء والمَحلب الآتي من ضفائر مهاتنا يضاف اليه عطر الجوري الاحمر في الواح الورد في حديقة غازي في مدينة الناصرية الذي تعودنا على شمه ونحن نروح في ممرات الحدية الحجرية يوم كنا نراجع لامتحانات البكلوريا . او عطر الرازقي المنتشر على اسيجة بيوت أثرياء المدينة .
في الحرب تفوقَ عطر البارود على أي عطر وبالرغم من هذا كانت قناني العطر هي من بعض اشتغالات الجمال الذي يرجمُ فيه الجنود قساوة الحرب ويظنون أنَ العطر من بعض طلاسم بقاءهم أحياء دون أن تصيبهم الشظايا ، وكان جنود المناطق الغربية والشمالية يوصون الجنود من أهل المدن الجنوبية بجلب انواع العطور التي اشتهرت في سبعينيات وثمانيات القرن الماضي وكانت تجلب من دولة الكويت وتُباع من قبل النساء اللائي يحملن اسم ( البذالة ) او ( الدلاله ) وأهم هذه العطور كان ( الهاواي والكشمير والأناناس والريف دور والتاباك والاراميس والاولد سبايس.)
لازمت هذه العطور أنوف الجنود ومخيلتهم وأحدثت تغيرات كبيرة في عواطفهم وخواطرهم التي يكتبونها في رسائلهم الى ذويهم .
ولأنني غادرت ربايا ذلك الشمال القديم وعدت الى مدرستي فلم يعد كاكه ( دلشاد ) يوصيني بجلب عطر الهاواي الذي يحبه ، وصديقي العريف المخابر (سامي عبد بشات ) من اهالي بنات الحسن في الحلة لم يعد يتمنى عليَّ أن اجلب عطر الأراميس الذي يعشقه ، ولكني تخليداً لذكرى اجمل الايام الانسانية في التحاف اجسدنا وتعانقها مع بعضها تحسبا لمصيبة القصف على ربيئتنا جلبتُ معي الى القرية عطر ( الهاواي ) اضع منه كل يوم على جسدي لتبقى ذكرى تلك الوجوه الجميلة معي.
انتشت الجواميس برائحة العطر ، وشعرتُ بأن قصب الهور يعدلُ من وقفته كثيرا حين يمرُ الزورق الذي اكون فيه والعطر يرش من ملابسي رائحة لنشوة المكان ليبعد رائحة السمك والطير النافق على الماء فيما تسكن خدود بنات المعدان اللائي اصادفهن وهن يحصدن القصب او يقدن قطعان جواميسهن ، تسكن خدودهن حمرة خجل وعاطفة لما يرسله العطر الى قلوبهم ونشوة تشعرهن بأنوثتهن المفطرة بالجمال .
حتى شغاتي سأل عن العطر ، ويبدو أن ام مكسيم ارادت منه قنينة حين سمعت بنات القرية يتحدثن عن نسائم الهاواي تنعش صدورهن وهي تحمل عطور الكاريبي وبحاره الزرق لتتحدد بجمالية خفية مع مياه الاهوار ، لتؤسس ذاكرتي مديحا للمكان الاستوائي واشجار جوز الهند الذي يؤسس مع القصب عبر قنينة العطر عالما من التخيل والقراءة وتحفيز الانوثة لتطلب من أولياء امورها سؤال المعلم :من اين اتى بهذا العطر .؟
دخل الهاواي الى القرية بترحاب وهوس ورغبة على شراءه جد الذي دفع البعض لرشه على ظهور الجواميس .
لقد اعطى هذا العطر للحياة في قريتنا شحنة من التفاؤل والاحساس بجمال ما حولنا الى اليوم الذي اتوا فيه بأبن موظف الخدمة ( ريكان قتيلا ) من جبهات الحرب في الشمال .
وحتى يبقى رائحة ولده معه الى الابد ولا ينسى صورته ، سألني لحظة طقوس غسل الجثة وتكفينها ، أستاذ كم قنينة عطر هاواي لديك.؟
قلت : اثنتان .
قال :اريد واحدة لولدي .
قلت :وماذا يفعل بها وهو ذاهب الى جوار ربه .؟
قال :اعطرها به قبل أن تستقبلهُ بوابات السماء .
جلبتها مسرعا ، فتحها ، رش كل عطرها على جسده ولده . وكأن الجميع شعروا بابتسامة الأبن وبأن كلمات تسكن شفتي ولده تقول :شكرا يا ولدي من الجميل ان تسافر الى السماء وعطر الهاواي معك……..!