لا يخفى على من يعرف هذا المثقف العراقي المهجوس بحب الوطن والمعجون بالقيم الإنسانية ، كم هو متعدد المواهب الفكرية ومتنوع الإبداعات الثقافية ، بحيث لن يكون من السهل إخضاع عطائه لتصنيف معين أو لتوصيف محدد . بيد انه – مع ذلك – لا يفتأ إلاّ أن يكون وفيا”لاهتماماته النقدية وملتزما”بانشغالاته المعرفية ، المتعلقة برصد ومتابعة كل ما له صلة بالإبداعات الفنية (أعمال مسرحية وتشكيلية) ، ليس فقط على مستوى الساحات الثقافية العراقية والعربية وحسب ، بل وكذلك على صعيد الانجازات الأدبية العالمية ومن كل الأصقاع ، وهو الأمر الذي ميّز معظم مساهماته بعمق التحليل الاجتماعي وغنى التأويل المعرفي ونضوج التأصيل التاريخي .
وفي هذا الإطار يندرج فحوى مقالته المقتضبة عن الرسام التشكيلي (نوري الراوي : عبقرية المكان) المنشورة ضمن كتابه الجديد الموسوم : كلام الأخرس وبصيرة الأعمى – مقالات في الفن التشكيلي ، الصادر عن دار الشؤون الثقافية العراقية لعام 2015 ، لتسجل حضورها الفاعل وتضع بصمتها المميزة ، لاسيما لجهة احتفائها بالعامل المكاني / الجغرافي حيال بلورة إحساس الفنان بوشائج انتمائه للبيئة المحلية (راوة) من جهة ، وتأصيل وعيه الفني والجمالي بتضاريس تلك البيئة الحميمة من جهة أخرى . للحدّ الذي نستطيع معه أن نجزم أنه (( ما من إبداع حقيقي حقق حضوره وتجليه المتميز ما لم تكن مرجعيته الأساسية مرجعية مكانية . إن المكان يحمل السحر والتألق والبراعة والاكتشاف ، الأمر الذي يجعل استثماره منطلقا”في كل عمل ، مسألة في غاية الأهمية نظرا”لما يشكله المكان من وشائج اجتماعية وروحية صميمية ، ومن هنا نجد إن غياب المكان ، يعني غياب المعنى والمعطى المبهر المراد من أي عمل إبداعي – ص29)) .
ولعل فكرة المكان الجغرافي التي يدعو لها ويدافع عنها الأستاذ (حسب الله) ضمن مقالته المذكورة ، لا تنطوي فقط على البعد الأرضي المحدد بالأبعاد والمؤطر بالاتجاهات ، بقدر ما تجتهد لإشاعة الإيحاء بالانبثاقات الأولى لوعي الأنا الذاتي ، والصيرورات البدئية لذاكرة النحن الجمعية ، والاشراقات البكر لسرديات المتخيل التاريخي . وهكذا نلاحظ أنه (( في الفن التشكيلي ، يشكل المكان بؤرة الازدهار في أعمال أحد أبرز رواد هذا الفن في العراق ، نوري الراوي (1925- ) حيث نجد المكان البكر ، والومضة الأولى ، والانتباهة غير المسبوقة بسواها – نفس المصدر)) .
ولحرصه على مضاهاة الإبداع الفني بأصالة الانتماء المكاني / الجغرافي ، فان الأستاذ (حسب) لا يكف عن التأكيد على ضرورة أن يتجنب العمل الفني فقدان الإحساس بحرارة الجذور وعبق الماضي ، وإلاّ فانه سيزج بنفسه إلى غياهب التيه والضياع ، باعتبار إن انقطاع الصلة بين ذات الفنان – وتبعا”لذلك كل إنسان – وأصول انتمائه المكاني ، (( لا يحقق سوى الضياع وغربة الروح واختفاء الهوية في المجهول وفي اللامكان – نفس المصدر )) .
ومن واقعة أن لكل فنان / مبدع ثيمة معيارية ينطلق منها ويحتكم إليها في مجمل أعماله وأغلب انجازاته ، فقد تمكن الأستاذ (حسب الله) من تشخيص الثيمة المرجعية التي يتمحور حولها إبداع الفنان موضوع البحث ، مشيرا”إلى إن الجغرافية المحلية أو مكان النشأة الأولى كانت دائما”- وستبقى – بمثابة الدفة التي توجه مسار إبداعاته وتحدد خياراته ، حتى وان أظهرت أعماله الفنية انه عاش تجارب أمكنة أخرى بعيدة عن فضاءاته الحميمة . ذلك لأن ((كل شيء ، وكل ما هو خيّر ونبيل تحديدا”لابد أن ينطلق من مكان نعشقه ونلتم إليه .المكان المصفى ، هو المكان العبقري الوحيد الذي فينا . أما ما سواه فهو مكان أثير بالتأكيد لناسه وليس لسواهم – نفس المصدر )) .
وتحاشيا”لاحتسابه من دعاة ومروجي نظرية (الحتمية) الجغرافية في الفن ، تلك النظرية التي راجت طروحاتها في بعض الكتابات السوسيولوجية الألمانية في مطلع القرن المنصرم ، بفضل الجغرافي المعروف (فردريك راتزل) صاحب نظرية (المجال الجغرافي الحيوي) للدول . فقد حاول الباحث النأي بآرائه عن اسقاطات تلك النظرية وتخطي مزالقها التعصبية من جهة ، واستطاع ، من جهة أخرى ، خلق الانطباع لدى القارئ بأنه متعاطف مع استنتاجات نظرية (الإمكانية) الجغرافية في صيغتها الأكثر توازنا”، والتي بلور أفكارها الجغرافي الفرنسي (لوسيان فيفر) ، لاسيما وأن الباحث (حسب الله) لم يخفي مواقفه الواضحة حيال دور الإرادة الإنسانية في صيرورة عبقرية المكان ، ليس فقط على المستوى الشخصي للفنان المعني فحسب ، وإنما على المستوى الاجتماعي لعموم أفراد المجتمع أيضا”. ولأجل ذلك فقد أعلن إن (( إرادة المكان ، إرادة تصفها عبقرية البشر الذين يعيشون المكان عيشة فعل وحياة ووجود وأمل – نفس المصدر )) .