باتت ظاهرة اختراع سيرة ذاتية متخيلة، لا علاقة لها بالسيرة الذاتية الحقيقية لمخترعي السير الذاتية، لكنها لن تصمد طويلاً.
هناك مفارقة حدثت معي منذ أيام، حيث التقيت باثنين من كبار الأكاديميين العراقيين في مكتب للنشر بعمان، وكان أحدهما يتحدث بانفعال، وما إن حييت الحاضرين، حتى بادرني قائلاً: أتعرف فلاناً؟ قلت: لا.
فقال لي: هذا من حسن طالعك، وأنا لم أكن أعرفه أيضاً، غير أنه فاجأنا منذ أيام، حيث كنت وصاحبي، وأشار إلى الأكاديمي الثاني الذي كان حاضراً، في مقهى اعتدنا تناول قهوتنا الصباحية فيه، واقتحم خلوتنا وأخرج آلة تصوير، ومن دون أن يستأذننا طلب من عامل في المقهى أنْ يصوره معنا، والتقطت له معنا أكثر من صورة. ثم كانت المفاجأة المزعجة، فهو لم ينشر الصور من دون استئذان فقط، في موقع من مواقع الاتصال، بل كتب شرحاً عن واحدة من الصور جاء فيه: الأستاذ فلان -يقصد شخصه- يحيط به فلان وفلان، من دون صفاتنا الأكاديمية، وكأنه معلمنا الكبير ونحن من تلاميذه، وفي صورة ثانية يذكر أسماءنا ويقدم نفسه علينا، وكأننا توسلنا به من أجل أن تضمنا هذه الصورة معه.
فقلت له، وأنا أقصد التخفيف من انفعاله: إن أمثال صاحبكم هذا كثيرون، حتى باتت ظاهرة اختراع سيرة ذاتية متخيلة، لا علاقة لها بالسيرة الذاتية الحقيقية لمخترعي السير الذاتية، معروفة وشائعة، لكنها لن تصمد طويلاً، حتى في حال تم تمريرها وتم قبولها ممن يريدون قبولها.
ومما ساعد على تمرير السير الذاتية المخترعة سعة المساحة التي تتحرك عليها وسائل الاتصال الحديثة، وكثرة أدواتها، وتحررها من وعي النقد الجاد، لكن جميع المحاولات التي هي من قبيل محاولة صاحبكم، لن تغير ما هو حقيقي من السير الذاتية، ويبقى الكبير، علماً ودوراً، كبيراً.
إن هذه المفارقة أعادتني إلى مفارقة كانت في صيف العام 1969، حيث كنا في أول هيئة إدارية لاتحاد الأدباء في العراق، وكانت برئاسة الجواهري، وكنا بانتظار من لم يصل بعد من أعضاء الهيئة الإدارية، وكانت لجنة قبول الأعضاء الجدد المؤلفة من الروائي فؤاد التكرلي والشاعرين حسين مردان وسامي مهدي تواصل عملها غير بعيد عنا، وفجأة ارتفع صوت حسين مردان، بنبرته الخطابية: من هو هذا؟ هل هو حسين مردان؟ هل هو الجواهري؟
ويلتقط الجواهري ما قاله حسين مردان، فيقول له بصوت متهدج ونبرة رقيقة: أبو علي.. لو غيَّرت في التسلسل، ثم وضع يده على حنكه، وقال: من أجل العمر.
أي كان على حسين مردان أن يقدم الجواهري على نفسه، لأكثر من سبب، ولكن الجواهري الكبير، اختار فارق العمر تواضعاً، وأذكر أن حسين مردان تصرف وكأنه لم يسمع قول الجواهري، وواصل النقاش، وكذلك فعل الجواهري، حيث عاد إلى ما كان عليه من حديث مع الحاضرين.
أما أنا فقد توقفت عند هذه المفارقة، وأفدت منها، وما زلت حتى الآن.
صحيح أن الجواهري، حتى لو وضعته في آخر أية قائمة تضم أشخاصاً، سيبقى هو الجواهري، وأن الشخص الذي وضع اسمه متقدماً على أكاديميين كبيرين، لو نشر ألف صورة من هذا القبيل، لما استطاع أن يحتل مكانة غير مكانته الحقيقية.
لكن لا بد من معيار أخلاقي، يعطي لكل ذي حق حقه، ويضعه في موضعه، حيث الحكاية العربية القديمة، إذ قال أحدهم لصاحبه: أنا أسنُّ منك، وأنت أكبر مني، فما كان العمر وحده معياراً للأهمية.
نقلا عن العرب