17 نوفمبر، 2024 5:41 م
Search
Close this search box.

مرثية ثانية على عتبة قبر بعيد

مرثية ثانية على عتبة قبر بعيد

ألم أقل لكم إنني أكثر حظاً منكم بهذه الأم الكريمة الباذخة. أنا لم أرها وهي تحتضر وتمسك بيدي مثل حبل إنقاذٍ أخير. لم أشم رائحة الديتول في غرفة المشفى.

غرقت صفحات الفيسبوك الأسبوع الفائت بمراثي وذكريات، موجع كثيرها ومسعد قليلها وذلك بمناسبة عيد الأم. أغلب الأمهات اللاتي تمّ الاحتفاء بهنَّ كنَّ من سكنة السماء وجنتها التي تحت أقدامهن. في الواقع أنا لم أنشر شيئا عن ذلك اليوم العزيز، لكنني شاركت بعض أصدقائي الإلكترونيين بقراءة الفاتحة على روح أمٍّ رحلة، أو بإرسال ورود فيسبوكية للأمهات اللواتي ما زلنَ مسجلات على ذمة العيش الممكن.

في أخير الليل وبعد صفنة وألف صفنة، وجدتُ أنّ حالي كان أفضلُ من حال صحبي. الليلةَ أنا لا أنطرُ أُمّي. لقد ماتت بهيّة الجميلة ولم تكلّفْني وقفةً على رأسها الممتلئ بي كما كنت قبل ذلك ببطنها. هي ماتت ببغداد المريضة مثلها وأنا هنا تلقيت النبأ. حدث هذا الجلل منذ ست عشرة سنة.

عيناي ليلتها كانتا بخيلتين فلم تذرفا بعض دمعة. شغّلتُ المسجّل وأنصتُّ إلى تجويدٍ رحيمٍ من عبدالباسط محمد عبدالصمد. ارتاحتْ روحي وهدأ طبل قلبي قليلاً. ثمّ قفزتُ مثل جندي جريح في الأرض الحرام، فكان سعدون جابر الذي مرَدَ قلبي بمعلّقة “يا أمي يا أمّ الوفا يا طيب من الجنة”.

بهية المقدسة التي كانت تضحك على قفشاتي وأنا أعود مخموراً من الحانة، لم تؤذني حتى في خبر موتها. كتبتُ عنها مرثية قصصية يومها، حيث مشهد الغربة أتسع ليضمّ إلى دفتره السمين قبراً جديداً. تلقيتُ تلفوناً ليلياً من ابن عمي هاشم الذي تطوع فشال ثقل الخبر نيابة عن العائلة التي عزّ عليهم تفليش قلبي بهذا الرحيل. قال هاشم وهو يكاد يبلع نصف جملته، علّاوي البقاء في حياتك، لقد ماتت الحجية وسكتَ مثل مخنوق بشربة ماء.

جعفر أخي أخبرني أنّ الأم الحنينة قد أوصت في حال موتها أن لا تحطموا قلب علّوكي بالخبر وهو يعيش وحشته. سأحبس الدمعات بقوة الصبر الجميل، وسأترك أخوتي يشيلون النعش ويبكون نيابةً عني. تلفون آخر يرنّ في وشل الليل. إنه جعفر ثانيةً. قال إنّ أمنا ماتت وهي راضية عنك، لكنها قلقة جداً عليك وقالت إنّ وليدي سيعيش ضيماً عظيماً.

ألم أقل لكم إنني أكثر حظاً منكم بهذه الأم الكريمة الباذخة. أنا لم أرها وهي تحتضر وتمسك بيدي مثل حبل إنقاذٍ أخير. لم أشم رائحة الديتول في غرفة المشفى. لم أر وجه الطبيب وهو يتناول عشاءه ويبصم فوق ورقة الوفاة. لم أتضعضع مثل أخي وهو يلفّها ببطانية المشفى. لم أزرع فوق كتفي خشبة التابوت. لم أتلف مثل أخوتي وهم يعودون إلى الدار، ويلملمون ثيابها ويطوون سجادة صلاتها، لتنفتح قدّامهم كلّ ترانيمها وأدعيتها وجروح الأيام.
نقلا عن العرب

أحدث المقالات